لم يتمكن ماهر قاسم من دفن جثمان أبيه في مقبرة العائلة في خان يونس بجنوب قطاع غزة بعدما انسحب الجيش الإسرائيلي من المدينة قبل نحو شهر، فالجيش لم يعلن السماح بعودة السكان الذين أجبرهم على النزوح قسرا في مطلع ديسمبر كانون الأول الماضي.
ومنذ أبلغه أطباء مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح بوفاة أبيه، وهو في حيرة من أمره.. أين سيدفن الجثمان ومقبرة العائلة تقع ضمن حدود خان يونس؟ فتخطي الحدود قد يعني فقدان الحياة.
ظل يفكر طوال الليل وحتى ساعات الصباح، لم يُبقِ أحدا إلا وسأله عن مكان يمكن أن يواري فيه جثمان والده الذي أعياه المرض خلال نزوحه في ظروف بائسة.
منهم من أرشده للدفن بأي مقبرة عامة بدير البلح وسط القطاع أو في رفح جنوبه، رغم أنه عائلته كانت تسكن بين هاتين المدينتين في خان يونس.
أُقفلت الأبواب أمامه بينما الأقارب يستحثونه على سرعة دفن أبيه بأي مكان لأن المستشفى لا يسمح ببقاء الجثامين مدة أطول بسبب ظروف الحرب، حتى وجد ضالته في مقبرة جديدة تبرع فلسطيني بقطعة أرض خصيصا لإقامتها وحفر وبنى فيها عشرات القبور لمواراة قتلى الحرب وغيرهم من المتوفين من النازحين في منطقة المواصي.
وارى الابن جثمان أبيه بحضور عشرات المشيعين؛ وكان القبر بكل مستلزمات الدفن جاهزا، وكان موقعه أقرب لمكان سكنه من المقابر الأخرى.
ويروي قاسم (52 عاما) كيف أنهكه الفكر على مدى أيام منذ أبلغه الأطباء بأن أوضاع والده الصحية في تدهور مستمر وإلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة؛ فالأب أوصى بدفنه في مقبرة العائلة التي تضم كل من رحل من أهل وأقارب والتي لا يمكن الوصول إليها في ظروف الحرب والنزوح الراهنة، كما أن مكان نزوحه بالمواصي لم تكن توجد فيه أي مقبرة قبل الحرب لأن المنطقة زراعية وغير سكنية بالأساس.
يقول إنه فوجئ بإقامة ثلاث مقابر جديدة بالمواصي وإن عشرات الجثامين دفنت بها خلال فترة وجيزة، ما يعكس حجم الأزمة التي عالجها المتبرعون بقطع الأرض ومستلزمات البناء، خصوصا وأن النازحين جلهم من أماكن لا يمكن العودة إليها لدفن جثامين أقاربهم في الظروف الحالية.
المصدر: AWP - مشيعون يوارون جثمانا الثرى في مقبرة عامة تبرع فلسطيني بقطعة أرض لإقامتها بأماكن النزوح في مواصي خان يونس بقطاع غزة (1 مايو أيار 2024)
وبعدما وارى الجثمان الثرى، فإن أكثر ما يُحزن قاسم أنه لم يتمكن من الإيفاء بوصية أبيه بدفنه بمقبرة العائلة، كما أنه كان يتمنى أن تكون المقبرة أقرب من محل سكنه حال العودة إليه وانتهاء مرحلة النزوح.
* النزوح حيا وميتا
ذات المشهد تكرر مع أحمد سعيد الذي دفن ابنه محمد (23 عاما) المتوفى بالفشل الكلوي في مقبرة أخرى قريبة من دير البلح رغم أن مكان سكناه قبل النزوح ومكان مقبرة عائلته في خان يونس، لكنه لم يجد أي مقبرة داخل المدينة يمكن أن يدفن فيها جثمان ابنه.
يتحدث سعيد (57 عاما) عن صعوبات جمة كان يواجهها النازحون في دفن موتاهم قبل أن يتبرع الأهالي بقطع أراض وإنشاء مقابر بأماكن النزوح المتعددة، ما ساهم في علاج المشكلة وحال دون اضطرار الأهالي لخوض المخاطر بالوصول لبعض المقابر الخاضعة للاجتياح العسكري الإسرائيلي أو القريبة من هذه المواقع.
كان سعيد يتمنى هو الآخر أن يدفن ابنه بمقبرة العائلة القريبة من مكان سكناه قبل الحرب ليسهل عليه زيارته لاحقا، لكن الواقع فرض غير ذلك.
ولفت إلى أن كل النازحين من مدينة غزة وشمال القطاع يدفنون موتاهم بمقابر في رفح أو دير البلح أو مواصي خان يونس، بعيدا كل البعد عن أماكن سكناهم.
قال "يعيشون ويموتون ويُدفنون بعيدا عن منازلهم. ما أقسى الحرب عندما تكون الأجساد والأرواح بعيدة عن مسقط الرأس.
لكنها الحرب التي لم تكتف إسرائيل فيها بقتل الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم، لكنها تحرمهم حتى من الدفن في مقابرهم، ليعيش بعضنا ويموت ويُدفن نازحا".
وبات الاسم المتداول بين الفلسطينيين لأماكن الدفن الجديدة "مقابر النزوح"، ليجمع الفلسطيني بين هذه الصفة حيا وميتا.
وتساءل سعيد "أليست هذه نكبة جديدة؟ أمعقول أن يصل بنا الحال لنسمي من يتوفى بالميت النازح؟".
المصدر: AWP - مشيعون يحملون جثمانا إلى مثواه الأخير في مقبرة عامة تبرع فلسطيني بقطعة أرض لإقامتها بأماكن النزوح في مواصي خان يونس بقطاع غزة (1 مايو أيار 2024)
* "أفضل من فوضى دفن الجثامين"
بيد أن المتبرعين بهذه المقابر يؤكدون أنهم لجأوا إلى ذلك بعدما وجدوا الأهالي يضطرون للانتقال إلى مناطق بعيدة وخطيرة لدفن موتاهم، فآثروا توفير قطع أراض يخصصونها للدفن توفيرا للجهد وتقليلا للمخاطرة كما يقول عمران الأسطل الذي تبرع بقطعة أرض في البداية، ولما وجدها ضيقة أضاف إليها قطعة جديدة.
ويؤكد الرجل أن مقابر النزوح الجديدة كانت مهمة وأساسية لمعالجة مشكلة رئيسية تتعلق بدفن الموتى، وهو يعتبرها أفضل بكثير من فوضى دفن الجثامين إلى جوار الخيام والطرقات أو بأي أماكن متناثرة يمكن أن تشكل أزمات مستقبلية عند محاولات نقل الجثامين للمقابر الرئيسية حال انتهاء الحرب.
وإلى جانب تبرعه بقطعتي الأرض، ساهم الأسطل في بناء القبور من خلال توفير الأحجار والطوب والأسمنت وغيرها من مواد البناء، لافتا إلى أنه بمجرد معرفة الأهالي بوجود هذه المقبرة فضَّلوا الدفن فيها على الانتقال لمناطق أبعد أو دفن موتاهم بين الطرقات.