«هواء مالح» رحلة بين الواقع والخيال
-
«مرسى مطروح كانت البطل الأول فى الرواية.. وحاولت تغييرها لكننى عدت إليها دائمًا»
فى روايتها هواء مالح، تتناول الكاتبة هبة خميس صراع الإنسان مع ذاكرته، وتأثيرها العميق على حياته ومستقبله. الرواية تسير على خيط رفيع بين الواقع والخيال، مستندة إلى أماكن لها حضور قوى فى السرد، مثل مرسى مطروح، الإسكندرية، وسيوة، لتعكس التحولات الداخلية للبطلة صفاء، التى تخوض رحلة هروب من الماضى، لكنها تجد نفسها فى مواجهة حتمية معه.
فى هذا الحوار، تتحدث خميس عن إلهامها للرواية، علاقتها بشخصياتها، وتأثير الكتابة عليها نفسيًا، إلى جانب تفاصيل اختيار العنوان وبناء السرد، حيث تؤكد أن «الذاكرة تحدد لنا النسخة التى نصبح عليها.. هى نحن، ولا نستطيع التخلى عنها».
ما الذى دفعكِ لتناول فكرة الصراع مع الذاكرة ومحورها فى الرواية؟ هل كان هناك حدث معين ألهمكِ الفكرة؟
ــ فى الحقيقة تشغلنى فكرة الذاكرة بشدة منذ سنوات طويلة، مررت بالكثير فى حياتى لأدرك ثقل تلك الذاكرة وكيف تتحكم فى حالتى وتقلبات مزاجى بشكل قوى. كتبت تلك الرواية انطلاقا من سؤال سألته لنفسى وهو «هل هناك فرصة أخرى لحياة سعيدة لشخص بذاكرة ثقيلة؟» طرحت ذلك السؤال على نفسى لكننى لم أجد الإجابة التى وددت فى معرفتها، لذا شرعت فى كتابة الرواية التى ترتكز بشكل أساسى على ذلك السؤال وكيف تتحكم ذاكرتنا فى حياتنا ومستقبلنا بشكل أساسى، الحادث الذى ألهمنى كان أساسيا فى الرواية لكنه أثناء الكتابة تحول إلى حادث عرضى وهو حادث القطار. حينما أسمع عن تلك الحوادث أفكر دائما فى ضحاياها الذين يصفهم الكثيرون بالأرقام. لا أطيق تحول الإنسان إلى رقم . لذا منذ سنوات كنت فى مدينة «مرسى مطروح» وأثناء تجولى ليلاً سمعت أصوات سارينة الإسعاف لا ينقطع عن شوارع المدينة الصغيرة. علمت بعدها بحادث القطار وظل مزيج تلك الأصوات من سارينة الإسعاف لأصوات أشجار السرو التى تمتلئ بها المدينة داخلى حتى بدأت الكتابة. العنوان «هواء مالح» يوحى برحلة بين الواقع والخيال.
كيف اخترتِ هذا العنوان؟ وما الدلالة التى يحملها فى سياق الرواية؟
ــ عنوان الرواية دائما يكون أصعب جزء فى كتابتها. بالنسبة لى عندما أنتهى من العمل أضع نفسى فى أجوائه لفترة لوضع عنوان. بالنسبة لى كانت الرواية تعبر عن الشىء ونقيضه بالنسبة لى. يعرف الكثير من سكان المدن الساحلية ذلك التعبير حينما يصفون هواء مدينتهم. ومدينة مثل مرسى مطروح ذات شمس قاسية وبحر شديد الملوحة يختلف عن بحر الإسكندرية فيتشبع الهواء الرطب بالملح دائما . لذلك حينما وضعت العنوان المعبر عن حالة المدينة نفسها وجدتنى أعبر عن حالة الحب التى عاشتها البطلة نفسها.
كيف كانت رحلتكِ أثناء كتابة الرواية؟ وهل شعرتِ أنكِ تخوضين صراعًا مشابهًا لصراع البطلة؟ وكيف تشكلت شخصية «صفاء» فى مخيلتكِ؟ وهل هناك جانب من تجاربكِ الشخصية انعكس فيها؟
ــ كانت رحلة صعبة جدا، بالنسبة لى كنت أتخذ موقفا محايدا دائما فى الكتابة، أقف على مسافة من الشخصيات، لكننى فى تلك الرواية لم أستطع فعل ذلك. كنت أنا هى فى معظم الأوقات. تؤلمنى ذاكرتى الثقيلة مثلها وودت فى معظم الأوقات الصحو خالية من الذكرى. لذا توقفت كثيرا أثناء الكتابة بسبب تأثير تلك المشاعر علىَّ بشكل شخصى. كنت أعلم مسبقا إجابات أسئلتى لكننى تجاهلتها وشرعت فى استكمال رحلة الكتابة. يعلم المقربون منى بشكل شخصى كيف أثرت على تلك الرواية وكيف بدأتها أثناء مراحل مرض والدى الراحل واستكملتها عقب رحيله. حينما نخوض تجارب مؤلمة مشابهة فى الحياة نلجأ لاستدعاء ذاكرتنا وهذا ما حدث معى. تكرار مفردات المرض والرحيل أعاد لى ذكريات ظننت أننى فقدتها للأبد، وبدا الألم طازجا للغاية كأنه حدث تلك اللحظة التى بدأت الكتابة فيها.
اعتمدت الرواية على أماكن مثل الإسكندرية، مطروح، وسيوة. كيف ساعدت هذه الأماكن فى تشكيل مسار الرواية وصراعات البطلة؟
ــ أقول دائما أن الكتابة تأتى بمكانها، تبدأ الفكرة لدى بمكان ويظل ذلك المكان ثابتا وشاهدا على تحولات الشخصيات. فى «هواء مالح» كانت مدينة مرسى مطروح هى البطل الأول والذى حاولت تغييره لمكان أحفظه بشكل أكبر لكننى عدت دائما إليها. تشبه مدينة «مرسى مطروح» بطلة الرواية فهى تبدو مدينة كأنها ولدت الآن أو منذ سنوات. مختلفة عن الإسكندرية التى تحمل جذور وتاريخ خصب. فمطروح مدينة هادئة تشبه بطلتها متحررة من ذكرياتها القديمة وتبدو للزائر كأنما ولدت المدينة للتو. فى سيوة ساعدنى غموض الواحة على الجريمة التى تتخيل البطلة أنها ترتكبها، الواحة غامضة ومليئة بالأسرار، ساعدتنى أجواؤها على الإيهام وإكساب الجريمة الغموض وطرح التساؤلات حولها من قبل البطلة التى لم تعرف ماذا حدث فى الواحة. أما الإسكندرية فهى ماضى الشخصية الذى تحررت منه بفقدها ذاكرتها، فى الإسكندرية كانت خفية تشعر كأنها شبح يتحرك فى شوارع المدينة، بينما أكسبها وجودها فى مرسى مطروح حضورا قويا ووجودا شعر به من حولها.
الرواية تسير على خيط رفيع بين الواقع والخيال. كيف نجحتِ فى الحفاظ على هذا التوازن فى السرد؟
الذاكرة تبدو وكأنها بطل خفى فى الرواية. ما الرسالة التى أردتِ إيصالها من خلال هذا التركيز على الذاكرة؟
ــ الذاكرة كانت الفكرة الأساسية التى بنيت عليها السرد، كنت أحاول أنسنة تلك الذاكرة لجعلها متحكمة فى مصائر الشخصيات. لذلك بدت شخصية «صفاء» البطلة مدفوعة طوال الوقت تحت تأثير ذاكرتها. فهى تحركها تجاه الأماكن كى تكشف ما حدث رغم عدم رغبتها فى كشف ذلك. فهى شخصية قررت التخلى عن ذاكرتها والتمسك بذاكرة بديلة تعطيها شكل الحياة الذى أرادته. لكن الذاكرة ظلت تحركها حتى النهاية لحظة كشفها لما فعلته. أؤمن بتلك الفكرة بخصوص الذاكرة. وركزت عليها فى الرواية لأهميتها بالنسبة لي. فرغم الألم الذى يبعثه تلك الذاكرة فى أنفسنا، لكنها تحدد لنا النسخة التى نصبح عليها. هى نحن ولا نستطيع التخلى عنها.
اعتمدتِ على الوصف الحسى والتفاصيل الدقيقة لتوصيل المشاعر. كيف أثرت هذه التقنية على بناء النص ورسم الشخصيات؟
ــ «حادثة القطار» كانت نقطة تحول رئيسية فى الرواية. ما الذى يرمز إليه القطار فى السياق النفسى والزمانى للأحداث؟
ــ ربما تكون «حادثة القطار» هى الهيكل الذى بنيت عليه الرواية بأكملها، فالفكرة هاجمتنى أثناء وجوده بالمدينة وقت الحادثة وعقب رجوعى للإسكندرية رأيت الحطام وكيف يقطعون أجزاءه وينقلونها. ظلت الفكرة فى رأسى لوقت طويل جدا. وبمجرد الشروع فى الكتابة منذ سنوات كان القطار حاضرًا صوته فى رأسى. نشأت فى الإسكندرية بالقرب من قطار أبى قير الذى تمت إزالته مؤخرًا ودائمًا ارتبط القطار لدى بالحركة والتنقل من مكان لآخر ومن مرحلة لمرحلة. لذا كان القطار فى الرواية هو رمز انتقال البطلة لمرحلة أخرى فى حياتها، مرحلة مجهولة تمامًا لكنها تفصلها بشكل تام عن ماضيها الذى استغلت الحادثة لشطبه تمامًا من ذهنها وذكرياتها. فبدت كأن القطار ساعدها على الولادة من جديد دون أخطاء كبيرة.
استخدمتِ رموزًا مثل «رائحة الموت»، «الدماء الصدئة»، و«صوت القطار». كيف وظفتِ هذه الرموز لتجسيد المشاعر والصراعات؟
ــ أثناء كتابة الرواية بسبب الاعتماد على الجانب الحسى للأمور كنت أشم الروائح وأسمع الأصوات فى أذنى كأنها حقيقية وتلك الأشياء أعاقت مراحل الكتابة لأنها أثرت علىَّ بشكل نفسى. فكنت آخذ أوقاتًا للراحة أثناء الكتابة. لذا كنت أكتب تلك الأشياء كما أشعر بها تمامًا. قبل تلك الرواية كنت دائمًا على مسافة من شخصياتى لكننى فجأة كنت داخل الشخصية الرئيسية. ألمس ما تلمسه وأشم ما تشمه.
هل لديكِ طقوس معينة أثناء الكتابة، خاصة فى الروايات التى تحمل أبعادًا نفسية عميقة مثل «هواء مالح»؟
ــ أنا أم وحيدة لطفل يقترب من التسعة أعوام. بالطبع طقوسى الوحيدة فى الكتابة هى عندما ينام. فبعد يوم مرهق أمنح نفسى الوقت للكتابة. فى رواية «هواء مالح» كانت الكتابة مرهقة وذلك كان مفاجئًا بالنسبة لى لأنه بعد إرهاق اليوم كنت أعود لإرهاق الكتابة نفسها. تأثرت كثيرًا بمزاج الشخصيات لدرجة خوض نوبات من الإحباط بسبب تأثير تلك الشخصيات علىَّ. جربت الخروج والكتابة فى مكان مفتوح أو فى مكان بعيد لكن كل شىء كان مرهقًا بالنسبة لى. وعندما انتهيت من الكتابة وصفت الأمر بمخاض طويل انتهى أخيرًا.
ذلك كان مختلفا عن الرواية التى سبقتها «مساكن الأمريكان» لأننى حزنت حينما انتهيت منها وفارقت الشخصيات التى أحببتها.