تعمق محسوب لاكتشاف بواطن بطل الرواية المصاب بجنون العظمة
«ثراء على مستوى الفكرة، وذكاء فى الطرح والمعالجة ورسم دقيق للشخصيات» بتلك الأدوات استعان الكاتب مينا عادل جيد فى كتابة أحدث رواياته «الأستاذ بشير الكحلى» والتى تدور حول عالم يتعلق ببطل يعانى جنون العظمة، يصدق كل ما يقرأ، عمل مدرسا للتربية الرياضية، وأدار عمله وحياته بصرامة وانضباط ليعوض نفسه عن ضياع أمل كبير فى حياته.
على مدى 149 صفحة جاءت الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، حول بطل يراه من حوله فى الواقع كشخص عادى يعمل مدرسا للألعاب، ولكنه يرى فى نفسه زعامة متوهمة وينسج لنفسه عوالم من السطوة المتخيلة، حيث يتأكد القارئ من أن بطل العمل يعيش فى فقاعة وهمية؛ وينظر إلى نفسه باعتباره مصلحا اجتماعيا، وسياسيا بارعا، وصاحب رسالة سامية؛ يصعب تنفيذها على أرض الواقع، لكنها تكتسب أهمية كبيرة ومصداقية فى ذهنه.
يشعر القارئ بمجرد مطالعة صفحات الرواية أن الكاتب مينا عادل جيد، استهدف توريطه سريعا فى الأحداث، لا يستغرق الكثير من المقدمات ولا يعمد إلى التفافات ودهاليز تتخذ شكل الاستعراض لإقناع القارئ، وإنما استهدف تحقيق الإبهار على مستوى النص بالولوج مباشرة فى عوالم الرواية، حيث سرعان ما يكتشف القارئ أن بطل العمل «بشير الكحلى» إنسان قبل كل شىء؛ له دوافعه ورغباته، وله طرقه فى إشباعها، ونظريات يسعى إلى تطبيقها أيضا.
الأسلوب الذى اتسمت به الرواية يعد إحدى أهم أدوات قوتها، فلا تقعير لغوى ولا لجوء إلى حشو التفاصيل، وإنما سهولة وسلاسة تساعد الأحداث على المضى فى مجراها المحبب إلى نفس القارئ المتلهف إلى اكتشاف زوايا وأبعاد بطل العمل، يساعده فى ذلك الراوى نفسه الذى لا يكل ولا يمل من محاولة اكتشاف بواطن «الأستاذ بشير كحلى»، لنجد أنه فى بعض الأحيان يتداخل مع الشخصية ويحلل دوافعها، ويتأملها من قريب مرة ومن بعيد أخرى، أو يسخر منها فى بعض الأحيان.
ويأتى تطويع السلاسة اللغوية لخدمة السرد واضحا ومقصودا ويصل إلى قلب وعقل القارئ بشكل سريع، حيث جاء النص مدعوما بالكثير من أوجه وأشكال المجاز والتوصيف الذى يساعد على الغوص فى بواطن شخصية غير تقليدية لها طابع غرائبى، رغم ازدياد عدد حضورها على الصعيد المجتمعى أخيرا، حيث يحسب للكاتب أنه قد منح تلك المساحة وسلط بؤرة البطولة المطلقة على «بشير الكحلى» صاحب داء العظمة وما يعنيه ذلك للبطل وباقى التنويعات داخل النص.
ويمكن تلمس هذا القدر من الحرص على اللغة السلسة التى لا يعوق التقعير تدفق الأفكار فيها، من خلال المقتطف التالى: بدأ التقارب حين مرض بشير الكحلى وغاب عن المدرسة عدة أيام، لم يشعر بغيابه خلالها أحد غير محسن حنين فراش المدرسة، أما باقى العاملين فى المدرسة فكانوا يسعدون لغيابه، حتى يلقوا الطرف عليه بأريحية، ذهب محسن حنين لزيارته فى منزله للاطمئنان عليه، فتح له الكحلى، فوجده فراش المدرسة فى حالة إعياء شديدة، فرعاه وأنجز مشاويره وقضى له متطلباته مدفوعا بالمحبة وحدها. ومنذ ذلك الحين نشأت صداقة خفية بين بشير الكحلى وفراش المدرسة، صداقة حرص الكحلى على ألا يعرف أحد عنها شيئا لأنه لا يصح له وهو سليل الأكابر.
يمعن الكاتب فى إجراء تحليل وتدقيق لمكامن قوة ونقاط ضعف بطل الرواية، الأمر الذى يبدو منهجيا وتم نسجه بطريقة محسوبة، ليتجاوز كونه مجرد توصيف لحالة شخص يعانى جنون العظمة إلى حد تشريح دقيق للدوافع النفسية والذهنية لتلك الشخصية التى تفترض فى نفسها امتلاك قدرات وإمكانيات أكبر من حجمها الحقيقى كثيرا، حيث المضى نحو توقع انفجار تلك الفقاعة التى يعيش فيها البطل ودلالات ذلك وارتباطه بالكل من حوله.
على الصعيد الأسلوبى أيضا نجد مجموعة من الوقفات الذكية وسط الأحداث، حيث يمهد بها الكاتب نحو حوارات وتوصيفات ضرورية، توضح لنا طبيعة الأبطال وتمنح القارئ فرصة لالتقاط الأنفاس وجمع خيوط الأحداث من خلال بعض الجمل الطريفة التى تحمل روح السخرية المطلوبة من أجل عكس طريقة تفكير البطل فى ذاته وفى العالم من حوله.
وتمنح مساحات التخيل داخل النص، والأفكار الغريبة التى تجول فى رأس البطل، طابعا شيقا للرواية، الأمر الذى يمكن اكتشافه من خلال المقتطف التالى: عاشر بشير الكحلى أميرة مثل الأزواج ستة عشر عاما فى الظلام، وكفرعون جديد يمحو أى نقوش أو أثر لفرعون سبقه من على ذاكرة الجدران؛ أمر فى السنة الأولى بإزالة أى صورة فوتوغرافية لزوجها، ابن خاله من البيت وملابسه وكل أثره، وإخفاء سيرته عن يوسف ابنه، كأنه لم يكن موجودا قط ولضمان تنفيذ الأمر استلم بنفسه صورة الزفاف والذكريات والملابس والأغراض التى تخص ابن خاله، وأخذها فى صندوق من البيت بنفسه ووضعها فى غرفة محكمة الغلق فى شقته العتيقة أسماها (المعمل) وهى نفسها الغرفة التى صار فيما بعد ينزع فيها عن الكتب أغلفتها.
يذكر أن مينا عادل جيد كاتب وروائى تخرج فى كلية الآداب قسم الإعلام بجامعة المنيا، حصل على دبلوم الدراسات العليا فى التنمية الثقافية بجامعة القاهرة. كتب فى عديد من الصحف والمجلات والمواقع المصرية، وعمل مقدما ومعدا لبرامج تلفزيونية، وكتب سيناريوهات لأفلام وثائقية وروائية قصيرة.
نال كتابه «كنت طفلا قبطيا فى المنيا»، الصادر عام 2020، جائزة الكتاب الأول فى العلوم الإنسانية فى دورة 2021 من معرض القاهرة الدولى للكتاب، وصدرت له أعمال أدبية أخرى مثل «نواحى البطرخانة»، و«بيت المساكين» و«جزيرة إلخ إلخ».