• عبدالوهاب أخذ يجرى من شارع الألفى إلى باب الحديد بسبب «أنا المصرى»
* رياض السنباطى اعتبره صاحب الفضل الأول عليه.. والرحبانية ساروا على دربه
* صفاته: وسيم.. سمح.. مزاجه مرح.. يميل إلى السخرية دون تنمر.. كان يدلل أمه كما الطفلة.. بارٌّ بأهله وأصدقائه
لعل الدور الأهم لسيد درويش هو أنه صنع من فنه جسرا مر عليه إلى الضفة الأخرى كل من جاء بعده، هو الفنان الذى أحدث تحولا تاما للموسيقى المصرية والعربية، من تابعة للموسيقى التركية، إلى موسيقى مستقلة بذاتها، حتى أصبحت مدرسة يتبعها كل البلاد العربية وبعض القوميات الأخرى، هو صاحب جهد إنسانى خارق فهو لم يتعلم الموسيقى، فى معهد أو أكاديمية، لكنه علم نفسه، هو ابن مدرسة الحياة، لذلك ذهب إلى مناطق لم تكن مأهولة، فكان التلميذ والمعلم والعالم الذى أبهر العالم.
الآن بعد قرنٍ من الرحيل، لم نجد مجددا آخر أو إنسانا يأتى بجديد، مازلنا ننهل من نهر عطائه، ننعم بنتائج تأثيره على من بعده، أضعاف ما نستمتع بنتاجه الشخصى. سيد درويش رحيل الجسد وبقاء الروح و العطاء.. إلى حكايته مع الحياة والموسيقى والغناء، لأنها دراما فى حد ذاتها.
ولد سيد درويش فى الساعة التاسعة من صباح 17 مارس سنة 1892 بحى كوم الدكة بالإسكندرية.
كان أبوه «درويش» له ورشة صغيرة فى كوم الدكة يصنع القباقيب والكراسى الخشبية وكانت أمه «ملوك» سيدة من أسرة فقيرة أيضا.
كوم الدكة وهو من الأحياء الشعبية الفقيرة يسكن فيه عمال المعمار من بنائين ونجارين ونقاشين، ولهذا الحى تاريخ مجيد فى النضال الشعبى ضد الاحتلال الأجنبى.
* نشأته:
كان أبوه يريد أن يراه شيخا يحفظ القرآن ويجوده، لذلك أدخله كتاب حسن حلاوة بالحى نفسه، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة، حفظ قسطا من القرآن الكريم، وكان شغوفا فى طفولته بالاستماع إلى الشيوخ الذين يحيون الموالد، ويحفظ عنهم ويقلدهم أمام أطفال الحى.
عندما توفى والده صممت أمه على أن يتم تعليمه كما أراد أبوه ونقلته إلى مدرسة أولية تصادف أن بها معلما يهتم بتحفيظ الأطفال الأناشيد الدينية والقومية واسترعى الطفل سيد درويش انتباهه فخصه بعنايته وجعله يقود الأطفال فى ترتيل الأناشيد، ونمت معه موهبته وخرج من حدود الحى وأصبح يرتاد الأحياء الشعبية الأخرى ويستمع إلى مشاهير الشيوخ المقرئين والمطربين الذين يحيون الأفراح والموالد الدينية واشترت له أمه ملابس رجال الدين وهو غلام فى الثالثة عشرة من عمره وتقدم للالتحاق بالمعهد الدينى التابع لأحد مساجد الإسكندرية وهو مسجد (المرسى أبو العباس) لكى يحفظ القرآن.
* حياته الفنية
فى سن الخامسة عشرة وجد أنه يستطيع أن يتكسب من الغناء فى الأفراح والموالد بما حفظه من التواشيح والأناشيد الدينية فتوقف عن الدراسة وتفرغ للغناء والإنشاد.
وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية فى سنة 1907 وحدث كساد فى سوق الفنانين وانتشرت البطالة، خلع ملابس الشيوخ واشتغل مع عمال المعمار مساعد نقاش، وفى أثناء العمل كان يغنى فكان العمال الذين يشتغلون فى البناء يطربون له ولاحظ المقاول أن العمال ترتفع معنوياتهم ويزيد إنتاجهم إذا كان العامل سيد درويش يغنى لهم، فطلب إليه أن يتوقف عن العمل وأن يكتفى بالغناء للعمال.
وكان أمام العمارة التى يشتغل بها مقهى متواضع تصادف أن جلس فيه ممثل اسمه أمين عطا الله (وكان ذلك سنة 1908) وشقيق سليم عطا الله صاحب الفرقة التمثيلية التى تعمل فى الإسكندرية وسمع صوت هذا العامل، تقدم إليه وعرض عليه العمل فى فرقة أخيه ولم يتردد سيد درويش والتحق بالفرقة ليغنى مع الكورس وليؤدى منفردا بعض الأغانى بين فصول المسرحية.
وفى السنة نفسها سافر مع الفرقة إلى لبنان ولكن الفرقة فشلت ولم تلق إقبالا بسبب سوء الأحوال الاقتصادية وتشتت أفراد الفرقة وظل سيد درويش ببيروت ودمشق وحلب يكسب عيشه بقراءة القرآن فى المساجد ويبحث عن أساتذة الموسيقى ليتعلم عليهم أصول الموسيقى الشرقية ويحفظ عنهم التراث القديم كله.
وبعد أن قضى فى الشام قرابة تسعة أشهر عاد إلى الإسكندرية واستمر يشتغل بالغناء والإنشاد فى الأفراح والموالد والمقاهى الشعبية حتى اعتاد سليم عطا الله تأليف فرقته التمثيلية سنة 1910 فانضم سيد درويش إليها.
* الرحلة الثانية:
وفى خلال عمله بالإسكندرية بعد عودته من لبنان خرج من دائرة التقليد وترديد ألحان الآخرين وبدأ يؤلف ألحانه الخاصة ولكنه بسبب صغر سنه كان يخشى أن يجاهر بأنه يؤلف الموسيقى فكان ينسب الألحان إلى الملحنين المشهورين حتى تقابل بالاستحسان الشديد.
ثم سافر مع سليم عطا الله مرة أخرى إلى لبنان فى رحلتها الثانية التى نجحت هناك نجاحا مكنه من البقاء هناك فترة أطول (أكثر من سنة) تعامل فيها مع كبار أساتذة الموسيقى ومنهم الشيخ إبراهيم الموصلى، ثم استكمل دراسة علوم الموسيقى العربية وحفظ التراث العربى، ثم عاد إلى الإسكندرية سنة 1912 واستمر يعمل فى الأفراح والمقاهى الشعبية واستفاضت شهرته وبدأ يجاهر بأنه ملحن ويقدم للناس ألحانه بنفسه وكانت تقابل بالاستحسان وتنتشرعلى على الألسنة.
* إلى القاهرة:
وجاءت أخباره إلى القاهرة وتردد أسمه فى الأوساط الفنية فكان كبار فنانى القاهرة إذا زاروا الإسكندرية يبحثون عن المقهى الذى يغنى فيه الشيخ سيد درويش ليسمعوه، ومن هؤلاء الشيخ سلامة حجازى السكندرى الأصل الذى كان صوته أجمل وأقوى الأصوات فى عصره حتى إنه عندما جاء مغنى الأوبرا الإيطالى كاروزو إلى القاهرة لإحياء موسم فيها سمع عن سلامة حجازى وذهب إلى المسرح الذى كان يغنى فيه، وعندما سمعه قال: «الحمد لله لو ولد هذا الرجل فى أوروبا لما احتل كاروزو مكانة أعظم مغن فى عصره».
سمع سلامة حجازى صوت سيد درويش وشجعه على الحضور إلى القاهرة ليقدمه على مسرحه، قدمه سلامة حجازى للجمهور للغناء بين فصول الرواية التى كانت تمثلها فرقته وغنى سيد درويش من ألحانه غناء لم يكن مألوفا وقتها الجمهور لم يرض عنه خصوصا أن صوته لم يكن فى جمال صوت سلامة حجازى فقوبل بالصفير والاستحسان مما جعل سلامة حجازى يخرج من خلف الستار ليقول للناس إن هذا الفتى (وكان عمره قرابة العشرين) هو عبقرى المستقبل.
حزن سيد درويش لفشله وعاد إلى الإسكندرية واستمر يعمل فيها سنوات الحرب العالمية الأولى وكان إذا كسد سوق الغناء ينتقل إلى العمل عاملا أو كاتب حسابات فى متجر للأثاث القديمة يملكه زوج أخته الكبرى.
وفى خلال عمله الغنائى هناك كان اسمه يتردد فى القاهرة على انه ملحن صاحب اتجاه جديد فى التلحين، وكانت فى القاهرة فرق تمثيلية عدة، بعضها يقدم ألوانا هزلية مطعمة بأغان ذات ألحان بسيطة، يونانية أو تركية، وبعضها يقدم مسرحيات درامية أو تراجيدية، وهذه الأخيرة كان من بينها فرقة الممثل التراجيدى الكبير جورج أبيض، الذى تراجع الإقبال عليها، لأن أحزان الحرب دفعت الناس إلى اللون الكوميدى للتسلية والترفيه، ورأى جورج أبيض أن يحول فرقته إلى اللون الكوميدى الاستعراضى الغنائى واستدعى سيد درويش من الإسكندرية وكلفه أن يلحن له أول أوبريت باسم (فيروز شاه).
وقبل سيد درويش هذه المهمة وانتقل إلى القاهرة وألف ألحان هذه الأوبريت التى كانت شيئا جديدا تماما على الموسيقى العربية، ولم تلبث أن أخذ الناس يرددونها وخصوصا الفنانون المشتغلون فى المسارح الغنائية الأخرى، وسمع نجيب الريحانى، بعض أفراد فرقته يغنون فى أوقات راحتهم بين البروفات، ألحانا غريبة وجديدة، سألهم عنها، وعندما عرف قصة هذا الملحن الجديد أسرع بالتعاقد معه يلحن له أوبيرتاته وألف له ألحان ثانى أوبريت وأسمها (ولو..).
وكانت ظاهرة غريبة إذ انتشرت ألحان هذه الرواية الثانية انتشارا هائلا حتى كان يرددها الأطفال فى الشوارع والعمال فى المصانع والفلاحون فى الحقول، ولذلك تهافت عليه أصحاب الفرق.
وجاء وقت كانت فى القاهرة أربع فرق، وعدة صالات للغناء، كانت كلها تقدم أوبريتات من تلحينه.
* فرقته الخاصة:
قرر سيد درويش تكوين فرقة خاصة باسمه قدم بها روايتين إحداهما باسم (شهرزاد) والثانية باسم (الباروكة)، وكان يؤدى بنفسه دور الفتى الأول، لكنها لم تستمر، بسبب جهله بشئون إدارة الفرق والدعاية، ولوجود مسرحه فى حى سيئ السمعة يكثر فيه وجود العساكر الأستراليين والإنجليز الذين كانوا يعتدون على الناس ويسرقون نقودهم، لهذه الأسباب كان الإقبال ضعيفا، فاضطر إلى حلها وعاد إلى التأليف للفرق الأخرى.
* مؤلفاته:
فى الفترة القصيرة بين حضوره إلى القاهرة سنة 1917 وبين وفاته فى 15 سبتمبر سنة 1923 وضع ألحان 22 أوبريت، والفصل الأول من أول أوبرا شرع فى تلحينها بعنوان (كليوباترا ومارك أنطونيو)، عشرة أدوار للتخت، وهى عبارة عن سيمفونيات عربية، و17 موشحا على النمط القديم ولكن بروح جديدة، إلى جانب 50 طقطوقة وهى الأغانى الخفيفة.
* اتجاهاته الفنية
لم ينل سيد درويش أى تعليم مدرسى فى الموسيقى سوى القليل من التحاقه بضعة شهور بمدرسة إيطالية للموسيقى فى الإسكندرية، أما كل ما تعلمه فكان من تعامله وتعاونه مع المشايخ والفنانين، أو استماعه لمشاهير المقرئين والمطربين، أو من حفظه عن الموسيقيين القدماء فى الإسكندرية وبيروت وحلب والقاهرة، أو من قراءاته فى كتب الموسيقى العربية القديمة.
وقد روى أنه بدأ يتعلم الموسيقى من كتاب اشتراه من بائع يعرض كتبه القديمة على رصيف الشارع، وبينما كان سيد درويش ينظر فى فترينة هذه المكتبة الفقيرة، ليختار كتبا فى التاريخ والشعر والأدب، وقع نظره على كتاب صغير أصفر الورق، وكان فى الموسيقى وطلب منه البائع خمسة مليمات، أعطاها له وذهب بهذا الكنز إلى بيته، وانكب عليه يلتهم ما فيه، وذهب فاشترى عودا قديما، وشرع يتعلم العزف عليه مسترشدا بالكتاب، وفى سن مبكرة جدا (الخامسة عشرة) وجد أنه قادر على تأليف الموسيقى أو بمعنى آخر، وضع الألحان والكلمات الشعرية الفصحى أو العامية، فأخذ يلحن ووجد أنه يلحن أشياء جديدة، تختلف عما كان سائدا، فتخوف لصغر سنه، أن يعرض نفسه للسخرية إذا جاهر بأنه صاحب اللحن، ولهذا نسب ألحانه لملحن ومغن شهير وقتها اسمه إبراهيم القبانى، فلما أعاد التجربة ووجد أن هذه الألحان تنال استحسان الناس بدأ يقدم نفسه كمؤلف، وكان من الطبيعى لعبقرى هذا تاريخه، وهذه بيئته وهذه مواهبه وأخلاقه أن تتجه اعماله للدفاع عن كل القضايا الوطنية، ولذلك فإن كل ألحانه وأهداف أوبريتاته كانت أهدافا وطنية عامة، كما كانت فى الوقت نفسه تعكس بشدة مطالب الطبقات الكادحة بجميع فئاتها.
كان سعد زغلول زعيم ثورة 1919 هو زعيم البرجوازية الوطنية التى كانت تقود الكفاح السياسى ضد الاحتلال البريطانى وكان إلى جانب سعد زغلول يوجد زعيم عربى آخر، هو سيد درويش بكل قوته فى المعركة الوطنية ولكن بمفهومات أخرى هى أن الشعب لا يرغب فى الحصول على استقلال بلده فحسب، وإنما ليحصل أيضا على حقوقه فى الحياة الكريمة التى تحققها خيرات بلده، هذه الخيرات التى ينتجها جهده وحده وعرقه وكدحه ومواهبه.
لذلك كان من الطبيعى أن تأخذ موسيقى سيد درويش أسلوبا أو شكلا تعبيريا يختلف كل الاختلاف عن الأساليب والأشكال السابقة، لأن الثورة فى الموضوع استتبعت الثورة فى الأسلوب.. وهكذا انطلقت الموسيقى العربية الحبيسة خارجة من معتقلها فى تصور أمراء الإقطاع إلى الهواء الطلق، تحطمت القيود التى كانت تربط الموسيقى العربية إلى ذلك العالم المحدود الأشواق، وصل الأمر بذلك الثائر الجسور المقتحم الواثق من عبقريته إلى أن يستعمل فى بعض ألحان أوبريتاته مثل «شهرزاد» و«الباروكة» «الهرمونى» التى لم تعرفها الموسيقى العربية من قبل.
* سماته الشخصية
يقول معاصروه وأصدقاؤه، وعدد من الصور الفوتوغرافية، إنه كان ممتلئ الجسم قوى العضلات وكان وجهه وسيما سمحا، وكان مزاجه مرحا ضاحكا متفائلا، يميل إلى السخرية الجميلة الذكية من دون تنمر، ولا حقد، وكان طيب القلب، شديد الولاء لأصدقائه، كريما، عطوفا على الفقير والضعيف وكان ذكى العقل والقلب ألمعى الفهم حساسا إلى أبعد حدود الحساسية، سريع الانفعال سريع النسيان وكان يخص أمه بحب يقرب العبادة، يدللها كأنها طفلة صغيرة، وكان جذاب الشخصية جميل الحديث سريع النكتة.
وعلى الرغم من أنه كسب كثيرا من المال، فإنه لم يدخر شيئا فلم يكن يخاف المستقبل ولم يكن يطمع فى مستوى معيشة يبعد به عن الطبقات الشعبية التى ولد وتربى فيها، ولهذا كان ينفق أولا بأول من كل ما يكسبه بعد أن يكفى نفسه وأسرته بما يجعل بيته مستورا سعيدا، كان يسد حاجة المحتاج من أصدقائه أو من زملائه الفنانين ثم من الناس الذين لا يكاد يعرفهم.
وفى هذه الصفات تروى الروايات وتحكى الحكايات التى تدل على إنسانيته العميقة وقلبه الكبير.
كانت هوايته إلى جانب الفن إصلاح أقلام الحبر وكان يتقن هذا العمل برغم انه لم يكن من المهن التى احترفها من قبل.
وكان يمضى سهراته فى الأحياء الشعبية ويخالط الناس البسطاء من عمال وباعة وحرفيين وحوذية ولم يفكر أبدا فى الانتساب إلى طبقة أعلى من طبقة أسرته، بل ظل على ولائه وحبه للكادحين حتى مات.
ويروى عنه أنه فى يوم افتتاح مسرح الأزبكية وكان قد لحن له أوبريت (هدى) كان الوزير المختص بالمسارح ــ وقتها وزير الاشغال ــ يحضر حفل الافتتاح، وبعد إنزال الستار على الفصل الأخير جاء مدير الفرقة يهرول إلى الكواليس ويزف إلى سيد درويش خبر إعجاب الوزير بموسيقى الرواية وأنه يستدعيه إلى مقصورته ليهنئه، ولكن سيد درويش أدار ظهره للمدير وسحب صديقه من يده وذهب به إلى حى شعبى عتيق سهرا فيه مع لابسى الجلابيب.
* وفاته:
اختلف البعض حول تاريخ وفاته، هناك من قال إنها ليلة 9 سبتمبر، وآخرون أكدوا أنها ليلة 10 سبتمبر، وتأكيدات أخرى مبنية على بعض الكتب والدراسات التى تناولت حياته قالت إنها منتصف سبتمبر سنة 1923.
ليلة الوفاة سافر إلى الإسكندرية ليكون فى استقبال سعد زغلول الزعيم الوطنى العائد من المنفى وليحفظ طلاب وطالبات المدارس النشيد الذى لحنه لاستقباله، ولكنه أصيب بنوبة قلبية مفاجئة فى مساء 14 سبتمبر ومات فجر 15 سبتمبر فى منزل شقيقته.
وفى وسط الاحتفالات الشعبية المهرجانات الوطنية المقامة فى الإسكندرية لاستقبال سعد زغلول لم يشعر أحد بوفاة أعظم عبقرية مصرية ظهرت فى العصر الحديث وشيعت جنازته فى احتفال متواضع لم يشيعه فيه إلا عدد قليل جدا من أهله وأصدقائه.
* محطات فى حياته
** أدخل سيد درويش الغناء البوليفونى فى الموسيقى المصرية للمرة الأولى، حيث قام بتلحين أوبريت «العشرة الطيبة» مع فرقة نجيب الريحانى وأوبريت «شهرزاد والبروكة». وتعاون مع المغنية والممثلة «منيرة المهدية»، التى ألف معها عدة أعمال مثل «كل يومين».
**هناك عدد من الألحان التى تألفت لمسرح الريحانى وعلى الكسار، وهى الآن جزء من الفولكلور المصرى مثل: سالمة يا سلامة، زورونى كل سنة مرة، الحلوة دى، أهو دا اللى صار، الحلوة دى، أنا هويت، خفيف الروح، يا فؤادى ليه بتعشق، يللى قوامك يعجبنى، فى شرع مين، أنا عشقت، أنا هويته وانتهيت، يا ترى بعد البعاد، يا صاحب السحر الحلال، يا شادى الألحان، يا غصين البان حرت فى أمرى، يا بهجة الروح، نما دمعى من عيونى ونما، صحت وجدا.
هذه الأعمال تم غناؤها من قبل مطربين كبار، مثل السيدة فيروز وصباح فخرى وعلى الحجار وماجدة الرومى وحفيده إيمان البحر درويش ومحمد محسن من الشباب، إلى جانب معظم المطربين الشبان.
** سجلت ثلاث شركات صوت سيد درويش وهى: «ميشيان» وهى شركة تسجيل محلية صغيرة أسسها مهاجر أرمنى، وقد سجلت صوته بين عامى 1914 و1920. وشركة «أوديون» وهى الشركة الألمانية التى سجلت على نطاقٍ واسع ذخيرته المسرحية الخفيفة فى عام 1922. وشركة «بايدافون» التى سجلت ثلاثة أدوار عام 1922.
** عاجله الموت قبل تنفيذ نيته السفر إلى إيطاليا لدراسة الموسيقى.
** عاش 32 سنة فقط، وعمره الإبداعى كان 12 سنة.
* تأثير سيد درويش على رموز الإبداع
وكما اختار الشيخ سيد المسرح الغنائى ليكون الفورم الذى يقدم من خلاله فنه وعنايته بالأغنية الجماعية، سار على نهجه الرحبانية «عاصى ومنصور»، لذا نجد من الطبيعى أن لحنًا للكناسين فى مسرحية «الشخص» للأخوين رحبانى عام 1968م، جاء على غرار لحن سيد درويش الذى قدم لحن «الكناسين» فى مسرحية «عقبال عندكم» 1919م، وتشعر بتأثير لحن دور «أنا هويت» على لحن الدور الوحيد الذى لحنه الأخوان لفيروز «رجعت ليالى زمان» فى الهنك المتبادل بين فيروز والكورس فى مقطع «ليل القمر والنسيم»، ومقطع «أحبه حتى فى الخصام» عند درويش.
** عام 1957م أصدرت الشركة اللبنانية للتسجيلات ثلاث أغنيات لسيد درويش وتوزيع الأخوين رحبانى وغناء فيروز تحت عنوان «أغانى من الماضى»، فى البداية صدرت أسطوانة ضمت أغنية «زورونى كل سنة مرة» وهى الطقطوقة التى كتبها الشاعر محمد يونس القاضى، وذاعت قديمًا بصوتى فتحية وحامد مرسى، وعلى الوجه الآخر من ذات الأسطوانة طبعت أغنية «طلعت يا محلا نورها» شعر بديع خيرى، وكانت فتحية أحمد غنتها فى مسرحية «قولوا له» لفرقة نجيب الريحانى عام 1918 م، وفى وقت لاحق من العام نفسه صدرت أغنية «الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية» من شعر بديع خيرى، وكانت غنتها أيضًا فتحية أحمد ضمن مسرحية «ولو».
كتب على الغلاف الخلفى للأسطوانة الأولى: «تلك الأغنيات التى يغنيها لنا جداتنا وأجدادنا، الأغنيات التى نحبها ونحب ذكرياتنا معها أيام كنا صغارًا، ولا نسمع اليوم غير صداها البعيد فى نفوسنا، هى الآن من جديد ملء سمعنا تغنيها لنا فيروز.
** قال عنه رياض السنباطى: جدد سيد درويش فى الموسيقى ما لم يعرفه أحد قبله، ولم يصل اليه موسيقى بعد، وإنى أدين له بالفضل العظيم فهو أول من شجعنى على مواصلة دراسة الموسيقى وأول درس فى الموسيقى تلقيته عنه، ومع أنه لم يدرس الهارمونى لكنه استطاع أن يتبع قواعده و ليس أدل على ذلك من لحنه كليوباترا «مجدا لأنطونيو الهمام».
** اختار الشيخ سيد درويش، وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب لكى يؤدى دور «زعبله» بأوبريت شهرزاد بعد مرضه، على مسرح دى بارى، وأدى عبدالوهاب الدور بتمكن شديد، أمام مطربة الفرقة حياة صبرى، وعن هذا العمل قال عبدالوهاب لقد أحدث نشيد «أنا المصرى» الموجود بالأوبريت انقلابا بداخلى لدرجة أننى كنت أجرى من شارع الألفى إلى باب الحديد دون وعى، لأهرب من نفسى وأهرب من جلدى، واكتشفت أن الإنسان المتطور يمكنه أن يخرج من القديم جديد، واكتشفت الفرق بين الدراسة فى المعهد وبين الضوء الذى أتى به سيد درويش.
هذا هو سيد درويش وحكايته مع الموسيقى والغناء.
•• ملحوظة: المصدر الرئيسي كتاب للدكتورة رتيبة الحفنى صدر 1974