عند التعمق في البحث عن المنجزات الفنية لعلم الموسيقار الرائد سيد درويش، سوف يقابلنا مصطلح متخصص يجرى استخدامه بكثرة من قبل كل من الموسيقيين والأدباء وبخاصة الموسيقيين ألا وهو "البوليفونية".
وهذا المصطلح قد لا يستوعبه غير المتخصصين بالموسيقى، ولكن بالتأكيد يشعر الجميع بأثره خلال الاستماع للموسيقى، وقد يكون من المثير للفضول لا سيما مع حلول ذكرى مرور 100 عام على وفاة المجدد الأبرز لموسيقانا العربية الحديثة، اكتشاف ماهيته، وما القصة وراء استخدام درويش لهذا الأسلوب الذي تحول إلى أحد بصماته الرائدة في تطوير الموسيقى.
ما هي البوليفونية؟
يستخدم مصطلح البوليفونية في الموسيقى والأدب، وهو أحد أوجه المقارنة الرئيسية بين الموسيقى الشرقية والغربية، وبحسب مجلة نقد 21، فإن كلمة البوليفونية هي الترجمة العربية لمصطلح polyphonie، المأخوذ من الأصل اليوناني poly وتعني الكثير، وكلمة phonie التي تعني الصوت ليكون المعني مجتمعا الكثير من الأصوات.
غير أن المعني في الاصطلاح الموسيقى هو مزج نغمتين أو أكثر من طبقات صوتية مختلفة بحيث تُسمعان معا في آن واحد، وهي تقنية موسيقية ميزت الموسيقى الآلية والغنائية في العصر الباروكي، وهي المقابل للصوت واللحن الواحد الذي كان شائعا حتى القرن التاسع عشر.
"دقت طبول الحرب".. البوليفونية للمرة الأولى عربياً
في 30 يونيو عام 1921 قدم الثنائي سيد درويش وبيرم التونسي مسرحية بعنوان شهر زاد – وهي تسبق مسرحية شهر زاد 1934 للأديب توفيق الحكيم - عرضا من خلال سياقها الدرامي أناشيد: من أشهرها "أنا المصري كريم العنصرين"، إضافة إلى "أحسن جيوش في الأمم جيوشنا"، "الجيش رجع م الحرب"، "اليوم يومك يا جنود"، إلا أن نشيد "دقت طبول الحرب" والذي استغرق 40 ثانية فقط شكل علامة بارزة كمثال على التجريب الموسيقي والخروج عن السياق، حيث استخدم فيه درويش تقنية البوليفونية لأول مرة في الموسيقى العربية.
كان هذا هو التعاون الأول بينهما، وفقا لما رواه بيرم التونسي في مقال نشره عام 1933 المنشور بجريدة "الزمان" والذي خصصه للحديث عن صديقه سيد درويش، بعدما كان يهاجمه خلال وجودة في القاهرة هو وفرقة نجيب الريحاني والتي كانت تستمد قوتها من ألحان سيد درويش، فقد كان يرى في نوع التمثيل الذي كانت تقوم به هذه الفرقة وبالا على الأخلاق، وأنه من خلال عمله محررا لجريدة الشباب الأسبوعية، جعل نصب عينيه محاربة هذه الفرقة وأمثالها بالحق والباطل.
ويشير التونسي في مقاله الذي أعيد نشره في كتاب " محمود بيرم التونسي في المنفى آثاره وأعماله"، إلى أن "الشيخ سيد درويش كان يقرأ تلك الصحيفة فيرى أن الحملة موجهة إليه قبل غيره، ويقر أنه متهم بسرقة الألحان التي يقدمها لجوق الريحاني، وكيف سرقها، وأن الحملة استمرت عليه شهورا طويلة".
ابتسامة ترد العواصف
لكن يقع ما لم يكن في الحسبان فعلى الرغم من أن الاثنان قد ولدا في مدينة الإسكندرية في عام واحد 1893، وفي حي واحد إلا انهما لم يتعرفا ببعضهما البعض إلا في عام 1921 في القاهرة. حينما كان سيد درويش يؤسس لفرقته الخاصة، وقد كان بحاجة إلى زجال يكتب له أزجال الافتتاحيات المسرحية.
ويتابع بيرم التونسي قائلا: " تأبى الظروف إلا أن تجمعني معه فى ليلة، جلس كلانا بجانب الآخر وهو لا يعرفه، ولاحظ أحد الجالسين وجودنا، فقام ووضع يديه على كتفينا وبحسن نية قدمنا لبعض، وما كنت أنتظر بعد هذا الشر العظيم والعواصف التي أثرتها عليه في الجريدة، أن يقوم لي مبتسما فرحا كأنما انفتح أمامه كنز، ولم يكن فرحه متكلفا، ولا بشاشته جبنا، فقد كان يتمتع بكل ضروب القوى، قوة بدنية هائلة، وقوة فنية لم يرزق غيره مثلها، وقوة مالية قلما تنفق لموسيقى في الشرق، وقوة عصبية يستمدها من مئات الألوف من الأنصار المعجبين والأحباب المخلصين، ولكن الناظر للسيد درويش يدرك على الفور أن هذه القوى لا تساوى عنده جناح بعوضة، فقد كان يترك بدنه لجميع أنواع المهلكات، أو ينفق ما في جيبه عن آخر درهم، ولا يهتم بمعرفة غنى أو وجيه."
وفقا لبيرم فلم يفارقا بعضهما إلا ظهيرة اليوم التالي ليتقابلا بعدها بساعتين، وعندها جاء الحديث عن السرقة التي كان يتهمه بها التونسي في مقالاته، حيث أوضح له الشيخ سيد موقفه بأن: "هذا جوق -فرقة- الريحاني ولا أخالك تجهل أنهم عبارة عن عصابة شوام...، ولا أخالك تجهل أن في مدينتنا الإسكندرية طائفة من الأناشيد هي في ذاتها ثروة فنية لو وضعت في محلها، تسمع الفقهاء الذين يشيعون الجنازة ينشدون البردة امام الميت من لحن "السيكا" أو "الصبا" بنغمة مفرحة لا تتفق مع هيبة الجنازة، وتعرف أن العوالم يشيعن العروسين بلحن يشم منه التهكم والتمسخر، أكثر من أن يسمع منه الفرح والابتهاج.
مضيفا على لسان درويش:" وهذه الذخيرة الطيبة التي علقت بالذاكرة ظلت محفوظة إلى أن جاء وقتها... طلب الريحاني لحنا لزفاف "كشكش بك"... فلم أرى أنسب من بردتنا التي ننشدها أمام الموتى..." وتابع: "على هذا المثال كانت معظم البضاعة التي نقدمها للريحاني...، على أن هذه الألحان حلت في المحل اللائق بها وانتفع بها العباد...
مشاكسة وعناد ورد بليغ
كانت "شهر زاد" هي الرواية التي افتتح بها درويش فرقته، ويقول التونسي: "كان عليّ أن أنظم له خمسة عشر لحناً في مواقفها المختلفة ولا يتصور غيري وغيره أننا اسكندريان لكل منا من المشاكسة والعناد ما يخيف الآخر ويجعله يحسب حساب صاحبه، وأشعر أن سيد قد رد عليّ أبلغ رد في ألحانه التي وضعها لهذه الرواية، بل أشعر أنه انتقم لنفسه أبلغ انتقام وأدَّب من اتهمه أحسن تأديب بدون أن يحتاج إلى جريدة وقلم.
ويعلم الله أن الوقت الذي قضيته في العمل معه كان عبارة عن جِلاد ونزال، فلم أقدم له من الأوزان إلا كل غريب مستعصى لم يركب عليه لحن من قبل، وكنت أنظم اللحن الواحد في عدة أيام، بينما الزجل العادي لا يكلفني إلا ساعات قليلة وكان هو من جهته يقابلني بالمثل، فلا يرضى من اللحن إلا بعد أن يستعد له في أسعد ساعات صفائه، ويعود عليه بالتنقيح والتغيير، ثم يعلنه ويسجله بالنوطة، وقد كانت روايته "شهر زاد" مثلاً بديعاً للموسيقى الكلاسيكية التي لم تطرق الأذن الشرقية.
"دقت طبول الحرب".. تحدي بيرم لاكتشاف موهبة درويش
ويرى الدكتور سعد الله آغا القلعة، أستاذ الموسيقى بالمعهد الموسيقي بحلب، أن هذا النشيد "دقت طبول الحرب" والذي وضع لحنه على مقام العجم، كان تحديا بحد ذاته من بيرم التونسي لاكتشاف موهبة سيد درويش، وأنه لا شك أن سيد درويش قد أدرك ذلك بعدما لاحظ ان المعاني متناقضة، لذا وضع أغلب امكانياته في تلحين تلك المسرحية وخاصة في هذا النشيد.
ويضيف القلعة أن درويش ربما تأثر بحضوره لعروض الأوبرا في القاهرة، والتي فيها الكثير من الغناء البوليفوني مقررا تقديم هذا النشيد بأسلوب الغناء البوليفوني. وأنه لا شك أن سيد درويش قد قام بتحفيظ الممثلين ألحانهم كل بشكل مستقل، الجنود لهم لحن، والقائد له لحن، والمعارضون لحنا آخر، ومن ثم طلب منهم الغناء بشكل متزامن، وبرأيه فقد كان هذا تجريبا حقيقيا لأسلوب جديد في الغناء العربي.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام