تمر الذكرى المئوية لوفاة الفنان سيد درويش، بمنتصف شهر سبتمبر الجاري؛ حيث رحل في 1923 عن عمر لم يجاوز 31 عاماً، ورغم العمر القصير وسنوات التجربة الفنية التي جاوزت عدد أصابع اليد بقليل، وضع الشيخ سيد درويش اسمه بجدارة واستحقاق على قمة تاريخ الموسيقى العربية.
ولد سيد درويش في 17 مارس 1892 بحي "كوم الدكة" بالإسكندرية، وذلك وسط أسرة حالتها المادية متواضعة؛ فكان أبوه درويش البحر يمتلك ورشة صغيرة يصنع بها القباقيب والكراسي الخشبية ويجني رزقه هو وأسرته بالكاد، ومن بين أبرز ما عرف به الحي الذي نشأ به الشيخ سيد في طفولته بأنه كان مركزاً للمقاومة والغضب الشعبي ضد استعمار الإنجليز، وهو ما خلق بدرويش المشاعر الوطنية، لذلك وهب موهبته الفذة في دعم المقاومة ضد الاحتلال، وأبدى صورا من تجديد فن الموسيقى وحيلا بالغة الطرافة في إيصال رسالة فنه.
مشاهد مذهلة من قلب المظاهرات
و يعد "النشيد الجماعي" من ملامح التجديد التي أدخلها سيد درويش على الغناء العربي، والذي كان مصدره من دون شك المظاهرات السياسية وهتافات الشعب في أثنائها؛ فقد كانت كل أغنياته الوطنية تغنى أثناء ثورة الشعب المساندة للزعيم سعد زغلول في 1919.
وكانت طريقة سيد درويش في تلحين هذه الاغنيات الوطنية والأناشيد تدعونا حقاً للذهول؛ فقد كان يمشي في المظاهرات ممسكاً بعوده فيلتقط هتافات الجماهير ويغنيها رأساً على عوده من على عربة حنطور، فيتلقف الشعب هتافاته وتتحول رأساً إلى أناشيد يرددها الناس فوراً، وكان هذا في حالة سماح السلطة بالأناشيد، وذلك وفقا لمقال للمايسترو سليم سحاب، نشرته الهيئة العامة لقصور الثقافة في إصدار احتفالي بأعلام الموسيقى
يا بلح زغلول
وينتقل سحاب بحديثه للجانب المقابل، وهو منع السلطات لذلك النشاط، فلم يكن ذلك يشل سيد درويش عن الحركة؛ فقد كان يلجأ للحيل والمقاومة السرية، ومن بين الأمثلة على ذلك، عندما نفت السلطات سعد باشا زغلول ومنعت ذكر اسمه، تفتقت عبقرية سيد درويش بأغنية "يا بلح زغلول" وهكذا عاد اسم الزعيم المحبب لأفواه الشعب.
دعم مستتر للخديو عباس حلمي
في عهد السلطان فؤاد واجه سيد درويش تضييقا متصاعدا على ألحانه، النابعة من إيمان وطني برفض كل الاحتلال الإنجليزي وأتباعه وأعاونه.
ولذلك فقد كان موقفه مغايراً تماماً مع الخديو السابق عباس حلمي الثاني، والذي عُرف بتحديه للإنجليز، لتقرر سلطات الاحتلال التخلص منه بعزله من منصبه وإنهاء حكمه ما نتج عنه تعاطفاً شعبيا مع عباس حلمي، الذي حاول خلال أحداث ثورة 1919 التواصل مع قيادات شعبية وشخصيات عامة عدة -وهو في المنفى خارج البلاد- ليعود إلى حكم مصر.
وجراء ذلك منعت سلطات الاحتلال ذكر اسمه، ليبتكر درويش حيلته الذكية، ويلحن دور" عواطفك دي أشهر من نار" والتي بها سر كامن في دعم عباس حلمي، سيتكشف عندنا نقرأ سطور الدور :
عواطفك دي أشهر من نار.. بس إشمعنى جافتني آه يا قلبك
انت اللطف وليه أحتار.. سيد الكل أنا طوع أوامرك
حالي صبح لم يرضي حبيب .. لوم الناس زودني لهيب
ما أقولش إن الوصل قريب.. يا مليكي والأمر لربك
والسر هنا، أننا إذا جمعنا أول حرف من كل شطرة من الدور، سنجد أنها تجمع كلمة "عبّاس" وبذلك جعل سيد درويش هذا الدور العاطفي سلاحاً سرياً بيد الشعب، مما يذكرنا بكلمات الموسيقار العالمي شوبان : "إنها مدافع مختبئة تحت الورود" وذلك وفقا لما نقله سليم سحاب بمقاله.
تابع القراءة ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام