مئوية سيد درويش.. فادي العبد الله يكتب: لماذا استمر حضوره؟ - بوابة الشروق
الأربعاء 8 يناير 2025 2:00 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مئوية سيد درويش.. فادي العبد الله يكتب: لماذا استمر حضوره؟


نشر في: الأحد 10 سبتمبر 2023 - 11:54 ص | آخر تحديث: الأحد 10 سبتمبر 2023 - 5:20 م
بعد قرن من رحيل سيد درويش، مازال ابن الإسكندرية هو العلامة الفارقة الأبرز في تاريخ الموسيقى العربية الحديث، وإحياء لذكراه المائة تفتح "الشروق" ملفا متجددا يضم إسهامات من كبار المؤرخين والنقاد والفنانين، بالإضافة إلى موضوعات عديدة حول سيرة فنان الشعب وتأثيره الممتد ودوره الفذ في تاريخ مصر والعالم العربي، فنيا واجتماعيا.
وبهذه المناسبة؛ اختص الناقد الموسيقي البارز فادي العبد الله "الشروق" بهذا المقال، الذي يسلط الضوء على أسباب استمرار طغيان تأثير سيد درويش بعد كل هذا الوقت منذ وفاته، في قراءة عميقة ومركزة لعناصر تميز منتجه الفني، وتداخله مع السياسة في حياته وبعد رحيله.
وإلى المقال..

في الذكرى المئوية لوفاة الشيخ سيد درويش يمكننا أن نؤكد أنه استمر حاضرا بقوة في المئة عام التي تلت رحيله، لكن السؤال مطروح اليوم عن سبب هذا الاستمرار مثلما أصبح مطروحا في شأن إمكانه مستقبلا.

لاستمرار حضور سيد درويش معنا أسباب موسيقية وغير موسيقية، في تقديري.

فهنالك وظيفة سياسية استُخدِم الشيخ سيد لأدائها، إذ تم تنصيبه "فناناً للشعب" (بالاعتماد اساسا على الحان الطوائف الاتية من عالم المسرح وكلماتها الظريفة) منافحاً عن الوطنية المصرية (نشيد "بلادي" أو "أنا المصري" في جزئه التمجيدي، قبل الانتقال إلى التخلي عن الأهل والأوطان) ورموزها وثورتها في 1919 (خصوصا في موضوع الأناشيد المتعلقة بسعد زغلول واقتران وفاة الشيخ سيد بعودة سعد باشا).
ومن ثم قرر نظام 1952 أيضا اعتماد الشيخ سيد نموذجا لما يُراد أن يكون عليه الفن الوطني، ونسج على مثاله متطلبات الأغاني الممجدة لثورة 52 أيضا. كما قرر اعتماده مثالاً لاضطهاد الملكية للفنانين بزعم التنكر للشيخ سيد وإرثه ومحاربته والتعتيم عليه، في حين أنه كُرّم مرارا بعد وفاته في العهد الملكي، في حفلات وفي الصحافة وفي السينما وفي الخطاب النقدي العام، مثلما كان بالغ النجاح في حياته.

هذه الوظيفة السياسية سهلها أيضا غياب الشيخ سيد المبكر مثلما كان نبوغه مبكرا، بما ترك حياته طيّعة لمادة بناء الأساطير، بغض النظر عن حقيقة ما كان الشيخ سيد يعتبره شغلاً مسرحياً (ولتوفيق الحكيم الذي عمل في المسرح في ذلك الوقت آراء صادمة حول الهدف الترفيهي الخالص لتلك المسرحيات) وما يعتبره الشيخ سيد شغله الخاص القيّم (أي ادواره القليلة) بحسب ما ينقل فيكتور سحاب في "السبعة الكبار".

وهنالك وظيفة فنية، أعني في صراعات الاوساط الفنية، لعبها الشيخ سيد درويش بعد وفاته.
فقد استخدمه عبد الوهاب أساسا وأيضا جيل من "المجددين" في محاربة أصحاب "القديم"، أي لغرض اعتبار عبد الوهاب وريثا لعمليات التجديد التي بدأت، بحسب مشهد سينمائي معروف في فيلم "الوردة البيضاء"، يلفتنا فريديريك لاغرانج إلى مغزاه، حيث تنتقل الصورة من عبده الحمولي إلى سلامة حجازي إلى سيد درويش فإلى عبد الوهاب نفسه.
في هذا السياق يجري التشديد على سيد درويش التواق إلى دراسة الأوبرا والهارموني في إيطاليا، الدامج فطريا في موسيقاه بين مقامات الشرق وبعض تقنيات الغرب كالبوليفونية والقفزات الصوتية البعيدة و"التعبيرية" (كمثال "يا ساتر" في لحن الشيطان)، ويجري أحيانا تصويره على أنه بعد الحمولي وأحيانا ضد الحمولي، مخلص الغناء المصري من تركيته و"غجريته" على ما زعم كمال النجمي، ومعيده الى جوهره الخالص.

يجري هذا أيضا بطبيعة الحال عبر التعتيم على ما استعاره الحمولي من العثمانيين و"مصّره" أي أخضعه للذوق المصري وما كان في عيني الشيخ سيد نفسه إنتاجه المهم أي الادوار وهو قالب موروث والموشحات، أي تمسكه بالجانب "القديم" التراثي.
هذا فضلا عن تناقض القول بالعودة إلى "جوهر" الغناء المصري من طريق الإعجاب بالغرب والتأثر به، لا بل سرعة التأثر به وتشرب روح فاغنر على ما ورد في مجلة الموسيقى (1935) مدحا لسيد درويش في ذكراه.

- سيد درويش بين القديم والجديد:

والواقع أن سيد درويش هو من جيل وسط لم ير في القديم عارا ولا في الانقطاع عن الحداثة فخارا، ولم يجد تناقضا عضويا بين التجديد والاستمرارية خلافا لبعض المتعصبين الذين يرون المعادلة صفرية دائما، كما خلافا لمن يعارضون التجديد من الداخل بذاك الذي من الخارج (وكل الموسيقى دائماً مرتبطة بخارج ما، بحسب ما تدلنا الأمثلة من العصر العباسي المتأثر بالتنظير اليوناني ثم بالممارسة الخراسانية حتى أيامنا هذه).
فما نجح به سيد درويش، على قول معاصرين مثل عبد العزيز اليشري ومثل زكي طليمات، إنما كان بالضبط دمج كل ما سمعه، بما في ذلك الموسيقى الايطالية وأولاد البلد والفقهاء والمنشدين ومطربي النهضة الحمولية، في إنتاج لا يستغربه المستمع ولا يراه نافرا أو منفرا.
والحق أيضا أن هذا ربما كان من أهم ما استفاده عبد الوهاب من الشيخ سيد، أي الجرأة على مثل هذا الدمج بدون التوقف عند اعتراضات نظرية تتجاوزها الممارسة.

- كيف تغير المسرح الغنائي في جيل سيد درويش؟

وهنالك، أخيرا، وربما هو الأهم، الوظيفة الموسيقية لما أتى به سيد درويش ومجايلوه (كالخلعي وداود حسني وزكريا أحمد) تحديدا بسبب تطور المسرح الغنائي، ومن ثم انتشر ما قاموا به إلى مجال الأغنية بشكل عام.
قبل هذا الجيل اعتمد المسرح الغنائي إما على الموشحات ومعارضاتها (اي كتابة كلام بنفس الوزن يغنى على لحن موشح معروف) مع أبي خليل القباني، أو على أداء القصائد، بالطريقة التطريبية، خلال المشاهد المسرحية مثلما فعل الشيخ سلامة حجازي.
أما ما أتى به جيل الخلعي وسيد درويش وبعدهما زكريا أحمد وغيرهم فهو تلحين أغنيات منبثقة من العمل المسرحي نفسه (سواء في صيغ غناء منفرد، أو ديالوجات أو غناء مجموعات) في قوالب أشبه بالأغنية الحديثة تضم الطقطوقة البسيطة والمونولوج والديالوج وغناء المجموعات، وبكلمات مرتبطة بالسياق المسرحي (بخاصة مع أمين صدقي، المظلوم جدا، وبديع خيري) ما يتطلب بحثاً عن تلحين ملائم ومُشاكِل لها.
وكل هذه الأفكار لا تنفصل بالطبع عن التحديث وعروض الفرق المسرحية الأجنبية للمسرح والأوبرا والأوبريتات الأوروبية.

وكانت هذه الأغاني الحديثة تُكتب ليؤديها أمثال نجيب الريحاني وعلي الكسار، أي ممثلون ذوي أصوات غير قادرة على أداء الطرب والعُرب والارتجالات. أنتجت هذه الأعمال المسرحية شكلا جديدا للجملة الموسيقية الواحدة في ضيق مداها النغمي وتكرار وحداتها الميلودية وفي تبسيطها وحيويتها الإيقاعية، وكذلك في زيادة ارتباط مناخها اللحني بما يلائم موضوعها، وفي تسريع إيصال الجملة في مقابل التأني الطربي الذي يفكك الجملة ويتوقف حيث شاء منها.

- التأثير التركي والأوروبي في أعمال سيد درويش:

أخيرا، على المستوى الموسيقي أيضا استكمل سيد درويش، في أدواره وموشحاتها مثلما في ألحانه المسرحية، مسار ترسيخ دخول مقامات جديدة (أو استعمالات جديدة لمقامات أقدم)، وكان ذلك الدخول أصلا بتأثير تركي ثم بتأثير أوروبي نتج عنهما زيادة مساحة استعمال مقامات مثل النهوند والعجم والحجاز كار كرد والزنجران والنكريز، مما أصبح أبعد عن مسارات الطرب الأقدم (من موشحات وأدوار كانت فيها هذه المقامات نادرة إن لم تكن منعدمة الاستعمال).
وهذه المقامات بسبب ابتعادها في المجمل عن "أرباع الصوت" (على ما يقال تيسيرا) واقترابها من الموسيقى الأوروبية، أقل إيحاء بالطرب في شكله القديم وأكثر ارتباطا بالطرب العاطفي الذي يعتمد على ربط المستمع بحالة من التماهي النفسي مع المؤدي.
ويكفي مثالا على ذلك الاستماع إلى أي دور من صالح عبد الحي أو سيد الصفتي مثلا في مقابل أداء سيد درويش أو غيره (عبد الوهاب أو السنباطي) لأدوار مثل "انا هويت وانتهيت".

هذه الوظيفة الموسيقية، في العمق، هي ما شكّل كل العالم الموسيقي الذي جال فيه عبد الوهاب والسنباطي والرحابنة، وبدرجة أقل قليلا القصبجي حيث إن رغبته التجديدية كثيرا ما طغت على الجانب العاطفي وعلى السلاسة وبساطة الجملة التي تحلى بها عموما سيد درويش.

أما زكريا أحمد فهو وإن كان صديق سيد درويش إلا أن رسوخه في الطرب المشايخي جعله باستمرار منشَدّاً إلى ذلك العالم وقليلا ما تبدى تأثره بالعالم الذي نشأ مع وبعد سيد درويش، عدا لمحات نادرة مثل لحنه "هاتجن يا ريت يا اخواننا"، ولعل نشراً أوسع لأعماله المسرحية يظهر هذا الوجه منه بشكلٍ أبرز.

- سيد درويش رمز للتجديد أم الأصالة؟

يظل سيد درويش حاضرا حتى الآن بسبب تضافر هذه الوظائف جميعا (حضوره كـ"فنان الشعب" على المستوى السياسي، كرمز للتجديد والأصالة معا على مستوى الصراعات الفنية، وحضوره كأحد كبار المؤسسين لعالم أغنية القرن العشرين وإنهاء المدرسة الحمولية الأسبق المعتمدة على طرب الارتجال والقفلات والأصوات الجبارة الراسخة في المقامات الشرقية، في مقابل تصعيد الأداء العاطفي ودور الملحن والارتباط بالكلمة وسياقها المكتوب).

لكن لا أحد يعلم بالضبط إن كان الشيخ سيد سيستمر معنا لمئة عام أخرى، في عالم عربي تُقتل فيه احتمالات السياسة وانتهت فيه صراعات الاجيال الأسبق لتصل إلى موسيقى خارجة على عالم موسيقى القرن العشرين بأكمله، من دون خطابات نظرية ولكن أيضا من دون ارتباط لا بقوالب الطرب ولا بالمقامات الشرقية وقفلاتها وصعوباتها، ولا بعالم المسرح والسينما وحكاياتهما.

ربما عاش سيد درويش مئة عام، بعد وفاته، لأنه كان صانعا لعالمه وتاليا عالمنا. أما اليوم فلا يبدو أن عالم الإنتاج الحديث - خارج الأغنية السياسية المحتضرة - مرتبط به ولا بمن تلاه إلا في استعارات ومحاكاة بارودية ساخرة.

في عالم الراب والتراب والمهرجانات والأغنية "المتصدرة" بتقنياتها وتصويرها وأصواتها الرقمية المعالجة، هناك حالة من الغرق في الآني المتواصل، ربما لا مجال فيها لمفاهيم مثل الإرث والتقليد والطرب، أو حتى الذكرى والتذكر أو ما كان ابن سينا يسميه "قوة التخيل" والتي بدونها تغدو الموسيقى نفسها مستحيلة.

 تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك