تحتضن مدينة القاهرة تراثا ثريًا ومتنوعا يقف شاهدا وموثقا لأحداث تاريخ، وشخصيات مرت على مصر في حقب مختلفة من تاريخها الممتدد.
ولا يقتصر تاريخ القاهرة على مساجدها التاريخية ومآذنها الشامخة أو القصور المنيفة؛ ففي مقابرها وجباناتها كنوزا مخفية لم يرها ولم يوثقها الكثير من قبل.
ووثق الدكتور مصطفى الصادق، أستاذ الطب المتفرغ بقصر العيني والمهتم بالتاريخ والتراث، جولاته بجبانات مقابر القاهرة التي أمضى بها سنوات عديدة، وجمع مادة ثرية من صور المقابر التاريخية، وصدرت أواخر يناير الماضي في كتاب: "كنوز مقابر مصر.. عجائب الأمور في شواهد القبور"، عن دار ديوان للنشر.
وتشارك "الشروق"، قراءها رحلة التعرف على الكنوز المخفية لجبانات ومقابر القاهرة من خلال حلقات مسلسلة تحت عنوان "شواهد القبور"، ما يمنحهم زاوية جديدة لإعادة قراءة تاريخ مصر وأحداثه وشخصياته:
الحلقة الأولى:
نبدأ حلقاتنا مع تمهيد لأبرز سمات الشواهد وقيمتها التاريخية وعناصرها الجمالية، كما أوردها الدكتور مصطفى الصادق في كتابه.
* شهادة وفاة موثقة
أوضح الصادق، أن الشواهد تقدم لنا بعض الصلات العائلية وترابطاتها، ما قد يسهل علينا فهم بعض الوقائع والأحداث التاريخية في تاريخ مصر الحديث، وقد يساهم في إعادة اكتشاف بعض الأحداث التاريخية وفهمها.
ووصف "الصادق"، شواهد القبور بأنها تمثل كنزًا فنيًا وتاريخيًا؛ فهي تروي لنا من خلال زخارف وتكوينها الفني البديع، تفاصيل غاية في الإبهار؛ حيث تلاحظ بأن الشواهد التي تكون لقبر سيدة يتواجد أعلاها ما يشبه التاج، أما بحالة المدفون رجل فإن أعلاه يوجد ما يشبه العمّة، وتضم الشواهد في بعض الأوقات مظاهر جمالية أخرى مثل نحت الضفائر على قبور السيدات، ونحت نماذج للنياشين التي حصل عليها المتوفى في حياته كنوع من التكريم.
* حساب الجمل.. دقة وإبداع
وأشار "الصادق"، إلى بُعد فني مهم في كتابة شواهد، حساب الجُمَل وطريقة لتسجيل التواريخ باستخدام الحروف الحدية، حيث يُعطى كل حرف رقما يدلُّ عليه، ومن مجموع أرقام هذه الحروف نستطيع الوصول إلى التاريخ المقصود، فعند جمع أرقام حروف الجملة المكتوبة بعد كلمة «أرَّخَ» نصل إلى سنة الوفاة كما نصل إلى اسم المتوفى.
وعرض نموذجًا توضيحيًا لحساب الجمل من خلال شاهد "السيدة توفيقة"، مفتاح للشاهد الأيمن هو كلمة «مارخه»، حيث نجد بعدها جملة تنتهى باسم المتوفية «توفيقة»، تقرأ كما يلى: «الله أكمل في الجنات توفيقه»، وبجمع أرقام عروف الجملة نصل إلى التاريخ المقصود: (الله: 1+30+30+5= 66)، (أكمل: 1+2040+30 =91)، (في :80+10=90)،(الجنات:1+30+3+501+400=485)، (توفيقه: 400+6+80+10+100+5=601)، ويصبح بذلك المجموع 66+91+90+485+601=1333، وهي سنة وفاة المتوفية.
* الشاهد أصدق من الكتاب
وأكد "الصادق"، القيمة التاريخية الشاهد بأنه يكون أحيانا أصدق وأدق من معلومات الواردة بالكتب، فمع زيارته لقبر والد إسماعيل باشا صدقي وقراءته تاريخ الوفاة المدون عليه، والعودة لمذكرات إسماعيل صدقي، وجد أنه ذكر تاريخا لوفاة والده بخلاف المدون على الشاهد، وأدهشه الأمر بالبداية؛ لكن مع البحث اتضح له أن صدقي قد أملى مذكراته وهو في سن قارب التسعين، ما معناه أن حالة الذاكرة قد تكون تأثرت، لذلك فالمعلومة الأكثر دقة هي المدونة على الشاهد.
* بثينة أجمل فتاة في العالم
وأشار لجانب آخر من الأهمية والقيمة التي تمثلها كتابات شواهد القبور، بأنها تقود لقصص إنسانية، ومثل على ذلك بحوش الفنان يوسف وهبي، الذي يضم قبرًا مكتوب على تركيبته "بثينة.. أجمل فتاة في العالم"، والتي ظنّ "الصادق" في البداية بأنها ابنته؛ لكن بالبحث في أرشيف الصحف قاد لرواية كاملة بالقصة، وهي أن بثينة هي ابنة زوجة يوسف بك وهبي، وكانت على قدر كبير من الجمال، وقد توفيت بحادث مأساوي بالسقوط من شرفة أحد فنادق العاصمة اللبنانية بيروت.