ليس أبلغ لوصف العبقرية الاستثنائية للموسيقار سيد درويش من واقعة قائد فرقته الموسيقية، مسيو كاسيو، على طرافتها، حين قرع رأس سيد درويش بقوس الكمان، قائلا له «نريد أن نعرف ما في هذا الدماغ»، فقد حار معاصروه وتساءلوا، بل إن العاملين معه ساورتهم الشكوك في غزارة إنتاجه وعلى تذكر ألحانه على كثرتها.
وفي ذكراه المئوية نستعيد مشاهد من تقييم معاصري سيد درويش لعبقريته الفذة.
سيد درويش.. ذاكرة حديدية
كان ما فعله كاسيو، والذي يرويه الموسيقي اللبناني المخضرم ميشال خيّاط وفقا لما ورد في كتاب «السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة» للناقد فكتور سحاب، بعدما أبدل كاسيو إحدى العلامات الموسيقية أثناء عزف إحدى الأغنيات المسرحية، وهو ما حدا بدرويش إلى أن يطلب منهم التوقف، ويأمرهم بأداء اللحن مثلما وضعه لهم. وقد أرادوا من ذلك اختبار علم الشيخ سيد بما وضعه من ألحان كثيرة في أيام قلائل.
لقد كان غيورا على فنه للدرجة التي جعلته في أحد الأيام يرتقي خشبة مسرح أحد الملاهي ليوجه لكمة إلى مغن تجرأ على الخروج عن اللحن الذي وضعه، بحسب ما أورد المستشرق الأسترالي إدوارد لويس في مقاله مجلة «حوار» اللبنانية الصادرة في أكتوبر 1964م.
تمسك بالطقطوقة
وبحسب ما ورد في كتاب «السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة»، فقد تمسك الشيخ سيد بالشكل التقليدي في تلحين الموشح والطقطوقة، رغم ثورته العارمة في مضمون اللحن والتعبير الموسيقى، ووفقا للكتاب فإن الكثير من النقاد يطيب لهم تصور أن ثورة وأمجاد درويش الموسيقية قامت على رفض كل ما سبقه ولفظه، وهو ما يصفه سحاب بعد الدقة، مشيراً إلى الأدوار العشرة التي وضعها الشيخ سيد والتي تؤكد التزامه بما وصل إليه سابقوه في شكل الدور، ما يعني أنه استفاد من تطويرهم لهذا الشكل وبنى عليه، ولكنه ثار على مضمون اللحن وأساليب التعبير فيه.
ميراث سيد درويش الفني
وقد أُحصي ما قام سيد درويش بتلحينه بنحو مائتين وثلاثاً وثلاثين أغنية مسرحية، في ثلاثين تمثيلية غنائية واستعراضاً وأوبرا، لحن في بعضها لحنين والبعض الأخر ثمانية عشر لحناً. وكان له في الموشحات سبعة عشر موشحاً تراوح بين اللحن الوقور والتفعيلات العريضة والموشح السريع والقصير، وقد وضع أيضا الكثير من الطقاطيق أحصى منها محمد على حماد في كتابه " سيد درويش حياة ونغم" ستا وستين طقطوقة، التزم فيما يعرف منها بالشكل التقليدي.
درويش الفقير عزيز النفس
عاش الشيخ سيد درويش حياته مبذرا، بالطول والعرض كما يقال، وكأنه كان يعرف أن سنواته لن تطول، اكتسب فيها أمولا طائلة، وأرسلها أيضا أدراج الرياح. وفقا لسحاب، فقد كان على عجل من أمره في كل مجال، وقد عانى الفقر والجوع جراء تبذيره ورغم هذا فقد كان عزيز النفس محافظا على كرامته، وفق ما يروي رفيقه بديع خيري الذي ويصف فقره باللذيذ، وأنهما لشدة فقرهما سهرا ليلة بطولها، هذا يؤلف وذاك يلحن، حتى انتهيا من وضع اثني عشر دورا، حملاها إلى صاحب شركة الأسطوانات، مسيو ميشيان ليقاولاه في السعر فعرف ميشيان حالهما فعرض شراء ثمانية من الأدوار بعشرة جنيهات، زادها إلى اثني عشر جنيهاً.
وفيما كان خيري يتابع المقاول لجعل السعر خمسة عشر جنيهاً تناول سيد درويش الأدوار المدونة ومزقها وهو يقول: «هو احنا منبيع ترمس؟ الدور بجنيه وربع؟» وخرج حانقا، وكانت تلك وفقا لسحاب أمثولة لخيري، في كرامة الفنان.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام