هناك الكثير من الأبحاث الأكاديمية التي تناولت سيد درويش بالدراسة في الأقسام المتخصصة في دراسة الموسيقى، وأيضاً في المجلات المتخصصة نشرت أبحاث تتحدث عن ألحان درويش ومكانته.
وننتقي من بين هذه الأوراق بحثا نشرته الكاتبة سهير عبدالفتاح عام 1992، في عدد مجلة إبداع الصادر في 1 أبريل، وتحدثت فيه عن حوار الموسيقات (بين الشرق والغرب) في ألحان سيد درويش، وتثبت من خلال هذا البحث القصير لماذا تميز درويش ولمع بشدة عن غير من الأسماء التي وجدت في عصره.
شكل الحياة الموسيقية قبل درويش
في المرحلة التي ظهر فيها سيد درويش كان هناك جانبين متناقضين، الأول جانب التقليديين المتزمتين الذين يرفضون أي تطور أو اتصال بالثقافات الأجنبية، والثاني جانب المتأوربين على حد وصف عبدالفتاح، الذين يعتقدون أن تقدمنا في الموسيقى ليس له إلا طريق واحد هو الطريق الذي سلكته الموسيقى الأوروبية التي تطورت من الأشكال الغنائية البسيطة، إلى الأشكال السيمفونية والأوبرالية المعقدة، حتى وإن أدى هذا الطريق إلى التنازل عن كل مايميز موسيقانا القومية، ويخضها من مقامات وأشكال وآلات.
أنصار التيار التقليدي للموسيقى
قالت عبدالفتاح إن لكل من الطريقين أنصار متحمسون فالتيار التقليدي المحافظ يمثله في المجال الفني كبار المللحنين الذين لمعوا في تلك الفترة كصالح عبدالحي، والشيخ أبو العلا محمد، والشيخ علي محمود، وفي المجال الأكاديمي معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، الذي ضم أنصار الموسيقى التقليدية من الفنانين.
مناصرو التيار العصري
أما التيار العصري فكان يمثله في المجال الفني بعض الهواة الذين درسوا الموسيقى السيمفونية واتصلوا بالأوساط الأجنبية في مصر والخارج، ومنهم يوسف جريس أول مصري تعزف له الأوركسترا عملا سيمفونياً وهي قصيدة "مصر"، والتي قدمت في الإسكندرية عام 1933، ومنهم أبوبكر خيرت، وحسن رشيد.
أجواء الموسيقى كما رصدها نجل درويش
وقد ورد في كتاب "من أجل أبي سيد درويش" لابنه حسن درويش جزء عن الأجواء التي كانت تعيشها الموسيقى في ذلك الوقت وقال: "هناك فئة من المثقفين أرادو النهوض بالموسيقى الشرقية ولكنها ضلت الطريق وخانها التوفيق حين حاولت التصدي لتدوين الألحان الشرقية لعزفها على الآلات الثابتة الغربية كالبيانو، واستبعدوا نغمة الربع تون بالتقريب إلى التون أو النصف تون فبدت ممسوخة لا هي شرقية ولا هي غربية وعلى قمة هؤلاء محمد ذاكر بك الذي قام بتدوين بعض الأدوار والأغاني الشرقية لتعزفها الفرق النحاسية لموسيقات الجيش في المناسبات ولم يستسغ الكثيرين سماع هذه الأدوار بعد أن تبدل مذاقها الشرقي الأصيل بسبب إلغاء أرباع المقامات من نصوصها الموسيقية".
وفي نفس الوقت كانت آلات التخت المتوارثة لا تفي بمتطلبات المسرح الغنائي واستعراضاته، لأنها قائمة على العود والقانون والكمان والناي، مما اضطر بعض المشتغلين بالمسرح الغنائي إلى الاستعاضة عنها باستخدام البيانو بعض الآلات النحاسية وسيطرت هذه الآلات على المسرح الغنائي رغم عدم كفاءة الآلات في أداء المقامات الشرقية، لذلك ظهرت محاولات لتطويع آلة البيانو لكي تستوعب أرباع المقامات الشرقية.
مرت محاولات تطويع العود بكثير من الوقت، حتى استطاع جورج سمان بالوصول إلى نتيجة مرضية في ذلك العصر، وكتب له سيد درويش مهنئاً رسالة لدعم نجاح المشروع عام 1922 قال فيها: "عزيزي أهنئكم أولا بالوصول إلى هذه الغلاية الجميلة ولعلها تكون فاتحة خير إن شاء الله على تقدم بلادنا وسببا لنجاح فن الموسيقى أكثر الله من أمثالك يا أخي وإني أشكرك من صميم فؤادي، وفي الختام تراني على استعداد لجميع طلباتك مع قبول فائق احترامي المخلص الشيخ سيد درويش" .
كيف كان سيد درويش مختلفاً؟
تقول عبدالفتاح إن هذه الحساسية بين الاتجاهين هي التي دعت إلى ظهور طريق ثالث غير طريق التمسك الحرفي وطريق النقل الحرفي، فقد رأى بعض العرب أنه يمكن أن نستفيد من التطور دون أن تنازل عن جوهر شخصيتها، وهذا هو الإنجاز الذي حققه سيد درويش مستفيدا في هذا بموهبته العظيمة أولاً، وبثقافته المتبحرة في الموسيقى العربية ثانياً، وباتصاله بالموسيقى الأوروبية وخاصة الأوبرالية، سواء وهو في الإسكندرية حيث تعيش جاليات كبيرة منهم، أو عندما انتقل إلى القاهرة وأصبح يشاهد بانتظام مواسم الأوبرا التي كانت تقدمها الفرق الأجنبية الزائرة في دار الأوبرا المصرية.
وتوضح كيف استطاع درويش أن يوفق بين أصول الموسيقى العربية وعناصر الموسيقى الأوروبية، من خلال ألحانه واختارت إحدى ألحانه لتعبر عن هذا، وذكرت أن لحن طقطوقة "مصطفاكي بزيداكي"، وعبر فيها درويش عن الصراع بين الشرق والغرب وكان موضوع الطقطوقة هو الحرب التركية اليونانية.
ذكرت درويش كان ضليعاً في تلحين الأشكال العربية التقليدية كما نجد في أدواره وموشحاته التي لا تزال حية حتى اليوم، لكنه كان أيضاً شديد الإعجاب بالموسيقى الأوروبية الغنائية، وقد شهد الذين عاصروه بأنه كان يتردد على تياترو الكورسال ليشاهد جوقة الأوبرا الإيطالية تعرض توسكا ومدام بترفلاي لبوتشيني والبلياتشو لليون كافللو، وإعجابه بأوبرات فانجر، وأدى به هذا الإعجاب عن التخت العربي والاقتصار على تلحين المسرح الغنائي الذي لحن له 21 أوبريت.
وأضافت أن درويش اقتبس عناصر أوروبية مثل موازين المارش الغنائية والرباعية، كما نجد في مارشاته وأناشيده (احنا الجنود- أحسن جيوش- بلادي بلادي- قوم يا مصري)، وأيضاً الميزان الثلاثي للفالس والبوليرو كما نجد في لحن يانيل سلام، واختيار درويش لإيقاع الفالس في لحن عن النيل، وفي لحن مصطفاكي ينتقل بحرية بين موازين مختلفة أساسها المارش، واستخدم في نفس اللحن البيانو والكمان، واستخدم مقام النهاوند، وهو مقام يعتبر مشترك بين الموسيقى العربية والغربية.
درويش أبو الموسيقى الحديثة
لذلك كله يصفه الدكتور والؤرخ الموسيقي الراحل زين نصار في كتابه "أعلام الموسيقى والغناء في مصر": " يعتبر سيد درويش أباً للموسيقى المصرية الحديثة بما أدخله من تطورات وأساليب التلحين والغناء، وكذلك الفكر الموسيقي الجديد الذي جاء به.
فبعد أن كان الغناء يهتم بالدرجة الأولى بعنصر التطريب واستعراض إمكانيات الصوت ومساحته والارتجال أثناء الغناء أو التلحين جاء سيد درويش واهتم بالتعبير عن معاني الكلمات وإن لم تخلو من التطريب وخاصة أدواره الغنائية ولكن استخدمه بمنطق فني ودون إسراف كما كان يحدث".
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام