عبدالناصر قال له: «هذا هو نوع الخط الذى نريد!»
من قريته «المسلمية» فى الزقازيق، ودراسته فى كُتابها وملاحظة شيخه لحُسن خط تلميذه، بدأت حياة الطفل محمود إبراهيم تتغير وتتشكل لتصنع منه واحدًا من رواد الخط العربى، وصاحب بصمة خاصة فى عالم فنون الخط، ويصبح الخطَّاط المصرى الوحيد الذى كتب المصحف بخط الثلث.
إنه شيخ الخطاطين محمود إبراهيم، صاحب العطاء والإبداع المتواصل، الذى قدم عبر قرن من الزمان 6 نسخ من المصحف الشريف تتنافس فى جمال خط آياتها، وعشرات اللوحات الخطية، التى شارك ببعضها فى مسابقات دولية وفاز بجوائز عنها، كما أقام العديد من المعارض داخل مصر وخارجها، كذلك قدم مئات العناوين الخطية لأغلفة الكتب لكبرى دور النشر، وغير ذلك من محطات مهمة فى حياة رائد خط الثلث، والذى يرويها الكاتب محسن عبدالفتاح فى ثنايا كتابه القيم: «شيخ الخطاطين محمود إبراهيم»، الصادر عن دار الشروق فى طبعته الأولى 2021.
♦ «البداية.. قروى بالقاهرة»
ولد فى الأول من مايو 1919م فى قريته (المسلمية) التحق بكُتَّاب القرية وكان شيخه يستحسن خطه ويوصيه أن يُرِيَ أقرانه من الأطفال ما خطَّ ليكتبوا مثله، تواصلت المسيرة فى المدرسة الأولية بقرية (بنى عامر) القريبة بعدة كيلومترات من قريته إلى أن توجه إلى معهد المعلمين (بالزقازيق) عقب حصوله على شهادة الابتدائية، فإذا بالمعهد قد أغلق أبوابه، وعلى الطلبة التوجه إما إلى معهد الإسكندرية وإما إلى القاهرة.
♦ «جائزة ملكية»
توجه الصبى نحو القاهرة، وفى أثناء سنوات دراسته بالمعلمين، لفت نظر مدرس اللغة العربية انشغال الطالب عن شرحه، ليذهب إليه ويجد ورقة بها بعض الكلمات المكتوبة بعناية وبلمسة فنية، ويتحوَّل الغضب إلى نصح أبوى فيقول له: (طالما أن خطك جميل هكذا؛ ويبدو أنك غاوى، لماذا لا تذهب إلى مدرسة تحسين الخطوط الملكية، فالدراسة بها مسائية، وتستطيع بشيء من الجهد الجمع بين الاثنين، ليتخرج فى المعلمين ومدرسة الخطوط فى العام 1939 معًا وكان الأول على دفعته فى مدرسة تحسين الخطوط، ونُشر الخبر بجريدتى الأهرام والمصرى مع صورته ولوحة التخرج الذى نال عنها جائزة ملكية قدرها خمسة جنيهات مصرية. أعقب ذلك نيل دبلوم الزخرفة والتذهيب بدراسة متخصصة لمدة عاميْن.
♦ «صاحبة الجلالة»
فى بداية حياته العملية دخل معترك التعليم مُدرس خط بالمدارس الخاصة، ثم التحق بوظيفة خطاط فى مكتب النائب العام بوزارة العدل، حتى التقى بالصحفى الكبير جلال الدين الحمامصى الذى طالبه بكتابة أول (مانشيت) للصفحة الأولى للجريدة، ويدهشه الدقة وجماليات الحروف وتناسق الكلمات، ليقول للشاب الواعد ذى الموهبة الفريدة: عليك بتقديم استقالتك من وزارة العدل؛ فقد تمَّ تعيينك من الآن بالجريدة بضعف مرتبك الحالى، وتمضى السنون وتتوطد العلاقة بين المكتشف والموهبة ليعملا معًا فى أكثر من موقع صحفى.
♦ «التسلح بالثقافة واللغات»
أدرك شيخ الخطاطين أن عالم الصحافة يعج بكبار رجال السياسة والأدباء والكُتاب من أصحاب المقامات العالية، فرأى ضرورة تسلحه بمزيد من الثقافة إلى جانب موهبته فى عالم الخط، فقرر العودة إلى مقاعد الدراسة والامتحان بنظام منازل، وهكذا مضت المسيرة؛ بعد نيل الابتدائية تقدم لنيل شهادة الكفاءة ثم البكالوريا، ويتبعها بتعلم اللغة الإنجليزية والفرنسية.
♦ «مع الرئيس عبدالناصر»
يحكى الكتاب عن اللقاء الأول لشيخ الخطَّاطين بالرئيس جمال عبدالناصر فى مكتب رئيس التحرير الأستاذ حسين فهمى، فيقول: «عندما أدخلت بروفة تجريبية لمانشيت الصفحة الأولى، وكان عبدالناصر واقفًا يتحدث مع حسين فهمى عن رؤيته لما يريد من خطوط متميزة للعدد الأول. وبالرغم من أن ظهره كان للباب فقد انتبه عند دخولى المكتب. وبعد أن نظر لى حسين وأذن بالدخول. وجدت نفسى وجهًا لوجه مع الرئيس عبدالناصر الذى همَّ بمصافحتى، ونظر إلى الصفحة الأولى للعدد التجريبى بعد أن أخذها من يدى وقال موجهًا حديثه إلى رئيس التحرير بابتسامة رضا: «هذا هو نوع الخط الذى نريد!»، وانطلقت جريدة الجمهورية كأول صحيفة يومية للثورة، برئاسة أنور السادات لإدارة الصحيفة، ورئاسة التحرير لحسين فهمى نقيب الصحفيين، ومحمود إبراهيم مسئولًا عن قسم الخط الفنى.
♦ «الأمل فى ليبيا»
أثناء عمله فى ليبيا بعد تعيينه فى وزارة الإعلام، ووضع مكتبه إلى جوار مكتب الوزير لسرعة الاتصال به عند الحاجة، تعرف شيخ الخطَّاطين إلى رائدات الحركة الوطنية النسائية الليبية، خديجة الجهمى، التى قررت أن تستعين بشيخ الخطَّاطين لإصدار مجلة للأطفال بعنوان «الأمل»، وتكون صفحاتها بألوان براقة وموضوعات متميزة، كأول مجلة تخرج إلى النور فى زمن الثورة الليببية الوليدة، ليقبل شيخ الخطَّاطين العرض ويبدأ يزين صفحاتها بخطوطه الجميلة، وأصبحت المجلة الأولى على مستوى الوطن العربى التى تُكتب سطورها بخط اليد من الغلاف إلى الغلاف، لينطلق بعدها إلى المساهمة فى تأسيس معهد ليبى لتعليم الخط وفنونه مع زملائه، ويتخرج على يديه عدد من الخطَّاطين المرموقين عربيًا منهم: الخطاط محفوظ البوعيشى، وعلى المصراتى.
♦ «حياة محمدﷺ بخطوط شيخ الخطاطين»
كان لشيخ الخطَّاطين الكثير من الأعمال الإبداعية المتميزة منها: كتاب «حياة محمد ﷺ فى عشرين قصة» الصادر عن دار الشروق، لرائد أدب الطفل الراحل عبدالتواب يوسف بأسلوب شائق ومبسط فى آنٍ واحد يتناول سيرة الرسول ﷺ على ألسنة المخلوقات من نبات وحيوان، وطير وجماد، وأجاد تصويرها رسمًا الفنان التشكيلى صلاح بيصار، كما تزين العمل بدءًا من الغلاف، مرورًا بالعناوين الداخلية المصاحبة للعشرين قصة بخطوط شيخ الخطَّاطين، فزاد العمل بهاء على بهاء. والكتاب يعد عملًا فريدًا فى المكتبة العربية والإسلامية؛ فريدًا فى فكرته، وأسلوبه، ورسومه وخطوطه؛ الأمر الذى أهَّله لفوز ناشره بأكبر جائزة عالمية لكتب الأطفال متفوقًا بذلك على 1400 كتاب من 30 دولة شاركت فى معرض «بولونيا» لكتب الأطفال بإيطاليا، وهى جائزة الآفاق الجديدة للعام 2000، وجاء فى حيثيات منح الجائزة: «إن هذا الكتاب محاولة ناجحة لإعادة تقديم عظمة الثقافة العربية باستخدام أجمل أساليب ومواد العصر فى تكامل يجسد قدرة الناشر على صهر عناصر الفكرة والحوار والرسم والخط والإخراج والطباعة، مطبقًا أحدث أساليب الغرب فى الإبداع والتجانس والإبهار البصرى، وإنه يخدم بحق فى الربط بين الثقافات والعمل على خلق عالم أفضل لأطفال الغد.. لقد منحت الجائزة لدار الشروق لدورها فى تشجيع الثقافة والأخلاقيات الرفيعة بين جيل الأطفال والناشئة، وذلك بتناول حياة النبى محمد ﷺ بأسلوب مبسط ومؤثر وبمساعدة الرسوم والخطوط الملائمة فى كتاب يعكس نموذجًا يحتذى به فى مجال النشر للأطفال على المستوى الدولي».
♦️ «نجيب محفوظ وخط الثلث»
ظلت مجلة «وجهات نظر» الشهرية منذ صدورها مطلع الألفية الثانية محطَّ اهتمام «دار الشروق» حيث حشدت لها خيرة الكتاب، وعشرات الأقلام المرموقة من داخل مصر وخارجها، كما استقطب لها كبار الفنانين التشكيليين، ولكى تكتمل الصورة استعانت الدار بشيخ الخطَّاطين، لكتابة عناوين الغلاف والموضوعات الداخلية؛ وفى العدد الثالث والتسعين للمجلة والذى تضمن ملفًّا خاصًّا عن رحيل أديب نوبل «نجيب محفوظ»، وبصورة غلاف معبرة لأديب العرب وهو يهمُّ بالرحيل متحاملًا فى مشيه على عصاه معطيًا الدنيا ظهره!، كتب شيخ الخطَّاطين اسم أديب نوبل بخط الثلث؛ تاج الخطوط وأصعبها كان الأقرب إلى نفس شيخ الخطَّاطين، فخرج الشكل الفنى لكتلة الاسم المكون من كلمتين «نجيب ومحفوظ» بشكل جديد وفريد؛ فزاد الغلاف رونقًا على رونق واجتمعت له عناصر النجاح والتفرد جميع فضاهى الشكل ونافس المضمون!، وثبتت دار الشروق هذه اللوحة الفنية التى أبدعها شيخ الخطَّاطين، كبصمة معتمدة على روايات أديب نوبل جميع، بل إن جميع المجلات والجرائد التى تتناول من حين لآخر جوانب من إبداع نجيب محفوظ ـ وهى كثيرة ـ أصبحت هى الأخرى تُصدِّر أعمالها بهذه اللوحة الفنية التى خطها بيمينه شيخ الخطَّاطين المعاصرين وكأنها محت ما قبلها ولم يعتد بأى شكل يجيء بعدها.
♦ «رائد صياغة الحلي»
لقد اهتم شيخ الخطَّاطين بمواكبة عصره وتعلم كل ما هو جديد ودرج على تقديمه فى أبهى صوره من ذلك عمله مع صانعة الاكسسورات المصرية العالمية «عزة فهمي» وأختها «رندة»، بعدما تعرفا على الراحل وكانا قد سمعا عن فنه فحرصا على اللقاء به، وشرحت له عزة الكثير فى مجال صياغة الحلى النسائية، ورغبة المرأة فى اقتناء كل جميل، وتطلب منه أن يكون سندا وعونا فى تنفيذ أفكارها وابتكاراتها، وبدأت مسيرة التعاون بينهما بتقديم رسم كروكى للفكرة، وأن يُراعى الشكل الفنى خطيًّا مع الالتزام بالأبعاد التى كانت تحسب بالملليمتر، والأخذ فى الاعتبار عملية التنفيذ من حفر غائر على معدن صلب لتشمل كلمات أمثال «الله.. الله محبة.. القلب يعشق كل جميل»، وغيرها من جمل دبت فيها الحياة بعدما خطتها يد شيخ الخطاطين وقدمتها عزة فهمى بدقة متناهية، وهو التعاون والعلاقة التى استمرت بين الإثنين حتى الرحيل وكانت «فهمي» حرصت على زيارته بين الفينة والأخرى، آخرها قبل الرحيل بأسابيع قليلة فى منزله.
♦ «تقديرًا وتكريمًا»
حظيَ شيخ الخطَّاطين بتكريمات عديدة طوال عمره المديد من داخل مصر وخارجها، وكان عام 2016م هو عام التكريمات فى حياته وقبل رحيله فى السادس من أكتوبر 2017م. فقد حرصت نقابة الصحفيين بيته الأول على تكريمه فى عيدها الماسى باعتباره من قدامى أعضائها وعن مجمل أعماله الكثيرة فى مجالات مختلفة. كما نال تكريمًا من معهد المخطوطات العربية باعتباره شخصية العام وذلك فى يوم المخطِّط العربى الذى أقيم فى يوم الرابع من إبريل عام 2016م. ودار الكتب والوثائق المصرية، احتفت به وبسادس مصحف خطه بخط الثلث، وعملت على تصوير نسخة من هذا العمل المعجز لتكون مرجعًا للأجيال الحالية والقادمة.
♦ «رحيل وأمنية أخيرة»
رحل شيخ الخطَّاطين المعاصرين محمود إبراهيم سلامة فى السادس من أكتوبر 2017 رحل جسدًا، وبقيَ روحًا وعملًا!. ويبقى الأمل فى أن يعمل المسئولون على تجميع هذا الإرث وبقية رواد الخط العربى ممن سبقوه فى متحف مستقل يليق بتلك الثروة من كنوز تراث الخط وفنونه؛ لتكون مرجعًا لأولادنا وأحفادنا من تلامذة ومحبى شيخ الخطَّاطين المعاصرين.. محمود إبراهيم سلامة وزملائه العظام.
♦♦ «محطات فى مسيرة شيخ الخطَّاطين»
♦ درس بمدرسة المعلمين، ثم بمدرسة تحسين الخطوط، استكمل التعليم العام «منازل» بداية من الشهادة الابتدائية وتفوق فيها وتخرج فى جامعة فؤاد الأول «القاهرة» عام 1952.
♦ أول محرر خطَّاط ينضم إلى نقابة الصحفيين بعضوية رقم 300 ويفتح الباب لبقية الزملاء من الخطَّاطين
♦ استضافته لندن لكتابة عناوين فيلم «محمد رسول الله ـ الرسالة»، ثم تكررت التجربة مع فيلم «أسد الصحراء ـ عمر المختار».
♦ تمَّ تكليفه من قبل وزير العدل والشئون الدينية الليبى «محمد الزوى» بكتابة أول مصحف بعد ثورة الفاتح عام 1969.
♦ كتب مصحف لـ«دار الشروق» بطلب من مؤسسها محمد المعلم الذى عتب عليه لكتابته مصحفًا لليبيا ويطالبه بكتابة مصحف لدار الشروق، قائلًا له بحسم: «مصر أولى بخطَّاطيها»!
♦ قدم تجربة كتابة مصحف فريد بخط الثلث تاج الخطوط وأصعبها بمقاس 70 سم × 35 سم ملون، ثم مصحف سادس بخط الثلث بمقاس فريد لم يحدث منذ أيام المماليك 100سم × 70سم بزخرفة فريدة انتقاها بنفسه وبألوان متجانسة وهو بعمر السادسة والتسعين.
♦ الخطَّاط المصرى الوحيد الذى كتب المصحف بخط الثلث