بُعيد أيام قلائل من وفاة علم الموسيقى العربية سيد درويش، يُروى عن رفيقه بديع خيري واقعة كانت الأشد إيلاما وتشاؤما لدرويش - نشرت في مجلة (كل شيء والدنيا) الصادرة عن دار الهلال سبتمبر 1935- قائلا إنه كان يتوقع الموت في كل حين، وقد دخل عليه ذات يوم وقد اصفر لونه وظهر عليه التأثر الشديد، وحكي له درويش أنه وأثناء عمله في الصباح، نظر في غفلة إلى برواز صورته، ولكن سرعان ما سقط البرواز مقلوبا على الأرض دون أن يمسه شيء، وأن ما حدث قد استدعى إلى ذهنه ما أحزنه وألهمه بأن العام لن يمر وهو على هذه الدنيا.
والحديث عن وفاة علم الموسيقى العربية سيد درويش، بعد حياة قصيرة اتسمت بالعجلة والبوهيمية وغزارة الإنتاج، يفتح الباب على اتجاهين هما: ما وصل إليه من فقر حين وفاته، وتعدد الأقاويل والروايات حول تلك الوفاة الملغزة. على أن ما قد قيل وروي عن وفاته سواء كان سلبيا أو إيجابيا، لا يزيد أو ينقص بحال من الأحوال من أثره الباقي الذي أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه قد ترك بصمة لا تمحى في تاريخ بلده والفن الذي عاش من أجله، ومازالت تتمدد بعد مائة عام.
الأم..
وفي كتابه "تراث الغناء العربي" الصادر عن دار الشروق، يسرد لنا الكاتب والصحفي كمال النجمي، نقلا عن مذكرات لم تنشر للكاتب والمترجم الأديب والمحامي محمد لطفي جمعة، الأخ الأكبر – بالرضاعة - لسيد درويش، عن كيف صار لطفي جمعة أخا لسيد درويش، وأيضا إحدى الروايات عن الوفاة اللغز والتي نشرها في مقال له سنة 1937، منسوبة إلى السيدة "ملوك" والدة درويش. فقد كان يعتبرها أما ثانيه له ويناديها بلقب الأمومة.
ووفقا للنجمي يقول لطفي جمعة فيما نقله ابنه "رابح" من مذكراته: إنه "لم يستطع الرضاع إلا بعد ثلاثة أيام حتى كاد يهلك جوعا، وبحثوا له عن مرضعة حتى عثروا على السيدة ملوك بنت عيد والدة سيد درويش، وكانت ولودا وأنجبت من زوجها درويش البحر أولادها فريدة وسيد وستوتة وزينب، وبفضل السيدة ملوك بقي لطفي جمعة على قيد الحياة، فلبث طوال حياته يحفظ لها هذه اليد لبيضاء وكان برا بأولادها وبناتها، وعلى رأسهم سيد درويش، وبعد وفاة سيد درويش توثقت الصداقة بين ابنه محمد البحر وبين "عمه" لطفي جمعة.
وبحسب "رابح" فقد عاشت السيدة ملوك بعد وفاة ابنها سيد درويش، فكانت تسافر من الإسكندرية إلى القاهرة لزيارة "ابنها" لطفي جمعة، وكان إذا سافر إلى الإسكندرية يزورها في بيتها ويطلب رضاها هي وأولادها.. وكان أصدقاء سيد درويش يأنسون إلى أخيه لطفي جمعة، ومنهم الشيخ يونس القاضي، الذي كان أوثق أصدقاء سيد درويش في القاهرة وقد صار الشيخ يونس صديقا للطفي جمعة باعتباره الشقيق الأكبر للشيخ سيد..
ويشكك رابح في كل من كتبوا عن الحياة الشخصية لسيد درويش بأنهم لم يتعدوا الأقاويل التي كانت تتناثر من حوله هنا وهناك، وكثر تأليف "الحكايات" التي لا أصل لها عن هذا الموسيقار النابغة الذي لمع كالشهاب، وانطفأ كالبرق!... موكدا على أن أبيه لطفي جمعة لم يكتب عن شقيقه سوى الحقائق مجردة من كل خيال.
أول العهد بالشيخ سيد درويش..
وفي مذكراته غير المنشورة وفقا للنجمي يكشف لطفي جمعة عن بداية علاقته بدرويش قائلا: "كان اول عهدي به سنة 1917 عندما قدم إلى القاهرة ليتعاون مع جورج أبيض عندما أسس فرقة واستأجر مسرحا في شارع بولاق - ش 26 يوليو الآن – فقد رأيته بعد عشرين عاما، إذ كنت أعرفه صبيا في الإسكندرية، وكان أبوه قد حاول تعليمه النجارة فلم يفلح، كما حاول بعد ذلك أن يعمل في صنعة "البياض".
ويتابع: "واكتسب سيد درويش عادات مضنية لبدنه، فلما وصل إلى الشهرة والغنى لم يستطع التخلص منها، فضيع ماله وسعادته، وانتهى بأن فقد حياته على مذبحها".
ويصف لطفي جمعة أخاه سيد درويش فيقول: "كان سيد قوي البنية وقد خلقة الله ذا جمال وهيبة، وجعل وجهه شديد الشبه بكبار الموسيقيين الأوروبيين أمثال بيتهوفن وموزارت، فكان ذا وجه عريض جميل التقاسيم، كبير الأنف طويل العنق، واسع الصدر، عريض الكتفين، حتى يخيل لمن يراه أنه مزود بحيوية تكفيه مائة عام.. كان رقيق الحاشية، دقيق الملاحظة، مرهف الحس، عفيف اليد واللسان، شديد الحياء، متواضعا كريما، يجود بحياته وماله ولا يعرف للمال قيمة، ولذا لم يدخر ولم يقتصد ولم ينظر في العواقب.. وكان أنيقا في ملبسه ومأكله، شديد الإفراط في ملذاته، شديد التعلق بالنساء ومحبا للتغيير، ولا يهمه نوع المرأة ولا خلقها ولا مكانتها ما دام فيها موضع مسرته ومصدر إلهائه ولو إلى حين".
صيدلي!
ويشير الأخ الأكبر في الرضاعة بأصابع الاتهام إلى المتسبب بنكبة أخيه بالاسم قائلا: "ولما أقبلت الدنيا على سيد درويش، استمر في حياة الفلاكة- الصعلكة – وكان سبب نكبته المباشرة صيدلي اسمه قسطندي عيسى، اتخذ من شارع قصر النيل بالقاهرة صيدلية كبرى وجعل معظم عشاق التخدير من ضحاياه، فباع لهم تلك المواد المخدرة بعشرات ألوف الجنيهات.
وكتب له سيد درويش على نفسه صكا بخمسمائة جنيه، ولكنه لم يستطع أن يدفع، فقاضاه الصيدلي واستصدر حكما بالحجز عليه، وحاول تنفيذ الحكم بالحجز على خاتم من الماس كان يلبسه في بنصره.
ولكن سيد درويش استطاع أن يفلت بخاتمه الماسي الثمين من براثن هذا الصيدلي الجشع".
لم يقتله الباشا.. ولكن الكوكايين!
وفقا للنجمي يقول لطفي جمعة في مقاله عن سيد درويش نشرها سنة 1937: "روت لي أمه المرحومة ملوك – عن سبب وفاته – أنه سافر إلى الإسكندرية، واجتمع في إحدى ضواحي الرمل بامرأة كان يحبها، فشرب وطعم وغنى، ثم حقن نفسه بحقنة كبيرة من المورفين، وشم مقدارا كبيرا من الكوكايين والهيروين، وكان الأطباء قد نهوه عنها جميعا، فأغمي عليه ولم يفق من غيبوبته، ونقل من مجلس الأنس جثة هامدة.. ولم يقتله أحد الباشوات كما زعموا.."
ولولا خاتم الألماس..
ويتابع جمعة في مذكراته أنه "ولولا هذا الخاتم لما استطاعت أسرة سيد درويش أن تسدد نفقات مأتمه فإنه لما توفى لم يجدوا معه شيئا من المال فباعوا خاتمه هذا ودفعوا من ثمنه نفقات الجنازة والمأتم".
ما حدث بعد الوفاة..
وينقل النجمي عن لطفي جمعة ما حدث بعد وفاة سيد درويش فيقول: "عندما انتقل إلى رحمة الله هجم زملاؤه وتلاميذه على تركته الفنية فانتهبوها وانشبوا فيها أظافرهم وقلموها وغيروا معالمها وادعوا الابتكار والتجديد، ورفعوا عقائرهم بها واستغنوا بها وأثروا، ولو مد الله في اجل سيد درويش ما تمكن واحد منهم من الخروج من وكره أو التحليق في جو الفن".
صيحة إشفاق بعد فوات الأوان
ويختتم لطفي جمعة كلماته عن أخيه في الرضاعة بصيحة إشفاق جاءت بعد فوات الأوان قائلا: "كان يستحق الحجر عليه لحمايته من نفسه وإسرافه عليها".
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام