اكتمل الوحي الإلهي، بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، في يوم عرفة من حجة الوداع؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسئولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى، وعلى مدار أكثر من 1000 عام ظهر تراث إسلامي زاخرا بالكتب في التفسير والحديث والسيرة والفقه وغيرها من العلوم الشرعية.
وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل في معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.
الحلقة الخامسة عشر..
يُعتبر علم الفقه الإسلامي أحد أعمدة المعرفة الإسلامية، ومرّ عبر التاريخ بمراحل من الاجتهاد والتطوير، ما أدى إلى ظهور المدارس الفقهية الكبرى، وكان لكل عالم منهجه الخاص في استنباط الأحكام الشرعية، فمنهم من اعتمد على القياس والاستحسان والمصلحة المرسلة، ومنهم من رفض ذلك واكتفى بالنصوص الشرعية فقط، كما فعل الإمام ابن حزم الأندلسي في كتابه "المحلى بالآثار"، الذي يُعَدّ من أعظم كتب الفقه المقارن المبني على النصوص الشرعية.
-من هو الإمام ابن حزم؟
وفقًا لما ورد في "وفيات الأعيان" لـ ابن خلكان، فإن علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم الظاهري، وُلد سنة 384هـ في الأندلس، ونشأ في بيت علم وفقه، حيث كان والده وزيرًا في الدولة الأموية بالأندلس، تلقى علومه الأولى على يد كبار الفقهاء، لكنه رفض المناهج الفقهية التقليدية، واتجه إلى مدرسة أهل الظاهر، التي تعتمد على الأخذ بظاهر النصوص الشرعية دون اللجوء إلى التأويل أو القياس.
-منهجه في المحلى
بحسب ما ورد في "تاريخ الفقه الإسلامي" للزركشي، فإن ابن حزم في "المحلى" التزم بمنهج صارم يقوم على: الاعتماد على القرآن والسنة الصحيحة كمصدرين أساسيين للتشريع، ورفض القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، معتبرًا أن هذه الوسائل تفتح الباب للاجتهادات البشرية التي قد تتعارض مع النصوص الشرعية، والالتزام بالإجماع الصريح فقط، مع رفض أي نوع من الإجماع الظني.
-موضوعات الكتاب
يغطي المحلى جميع أبواب الفقه الإسلامي، من الطهارة والصلاة والصيام، إلى المعاملات والنكاح والحدود. وفي كل مسألة، يعرض ابن حزم رأيه الفقهي بناءً على الأدلة من الكتاب والسنة، ثم ينقد المذاهب الأخرى نقدًا حادًا، خاصة المالكية والشافعية والحنفية.
-أهمية الكتاب وتأثيره
على الرغم من أسلوب ابن حزم الجدلي، فإن "المحلى" يُعتبر كنزًا فقهيًا لا غنى عنه للباحثين في أصول الفقه الإسلامي، حيث قال الشوكاني في "البدر الطالع": "لا يُستغنى عن المحلى لمن أراد معرفة قوة الأدلة وضعفها"، كما أن ابن تيمية في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" أشار إلى أن ابن حزم كان من أكثر العلماء تمسكًا بالدليل، وإن كان متشددًا في رفض الآراء الأخرى.
وغدا نلتقي مع كتاب جديد من المكتبة الإسلامية..
اقرأ أيضا:
المكتبة الإسلامية (14).. شرح مشكل الآثار للطحاوي: دفاع عن السنة النبوية