الرواية التاريخية أصدق من مناهج «التاريخ» المدرسية.. والدليل «كفاح طيبة»
المزج بين التراث والخيال عقدة طفولة ونقطة ضعفى
جسد المرأة «مصنع» مهيأ لأشياء كبيرة ولا يمكن اختزاله فى وظيفة «الجنس»
مُغرم بالمدن المصرية وأتساءل: لماذا تسمى فرق الكرة بأسماء شركات وليس المدن؟
راضٍ بما حققته من شهرة ولا يجوز طلب الحفاوة إذا غبت عن القارئ
«انكسار الروح» الرواية التأسيسية لكل مؤلفاتى..
مُغرم بالمعرفة، شغوف بالتاريخ، عاشق للتراث الإنسانى، يعيد كتابته ليقص على طريقته ما حدث لإخناتون فى «يوم غائم فى البر الغربى»، وما صار لـ«آدم من طين»، وما فعله الـ«عظماء فى طفولتهم». يكتب متأملا «الوقائع العربية» باحثا عن «لحظة تاريخ» منسية، فإذا به يكتب عن ثلاثين حكاية ممتعة ومذهلة من التاريخ، حكايات تروى «تفاصيل الشجن فى وقائع الزمن». وتشهد على «انكسار الروح»، وما حدث للضمير الإنسانى فى «كتيبة سوداء»، وتشى بأن السر المدفون قد يستيقظ بحضور «قمر على سمرقند» وأن إيقاع اللحن وهمس الحرف قادر على إعادة «شخصيات حية من الأغانى» وأن الغارق ينجو إن قال «أنا عشقت».
على مدى ما يزيد على نصف قرن وبأسلوبه السردى النابض بالحياة وبالموت وبمهارة روائى يُدرك جيدا متى يكتب حرفى «حب» وفى أى ظرف يجب أن تُكتب حروف «حرب»، نسج الدكتور محمد المنسى قنديل عوالم مؤلفاته السابق ذكرها، ليكللها بأحدث رواياته الأدبية «طبيب أرياف» الصادرة حديثا عن دار الشروق، وعن تلك الرواية ومشوار الخمسين عاما كان هذا الحوار الذى دار فى منزل أستاذ التفاصيل الصغيرة، والحكاء ذى الثقافة الرفيعة، الدكتور محمد المنسى قنديل. وقت إجراء الحوار كان معه بعض محبيه من الكُتاب: الكاتب عماد العادلى، والروائى محمد سمير ندا، والقاص والروائى عمرو العادلى.
< هل يمكن اعتبار الرواية جزءا من سيرتك الذاتية؟
ــ أنا شخص لا أحب كتابة السيرة الذاتية بشكل مباشر، بل أتبع ما فعله الأديب نجيب محفوظ فى كتابة سيرته الذاتية وهى أن تتخلل مؤلفاته أجزاء متفرقة من سيرته. فمثلا أثناء عملنا فى مجلة العربى أنا وصديقى الدكتور محمد المخزنجى، سافرنا إلى ذات الأماكن وتعرفنا على الثقافات نفسها، كتب هو كتابه الفريد «جنوبا وشرقا»، الصادر عن «دار الشروق»، بينما قررت أنا استخدام تلك المعرفة والرؤى والرحلات كمادة وخلفية فى مؤلفاتى القادمة؛ لأننى أؤمن أن الأدب الجيد جغرافية جيدة.
< لكن عنوان الرواية «طبيب أرياف» يحيل إلى فترة عملك كطبيب امتياز فى المنيا..
ــ الرواية تدور فى أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، وهو الوقت الذى شهدت فيه القرية المصرية «الفرعونية»، وكأنها لم تمس منذ ذلك العصر، البيوت الطينية دون كهرباء أو ماء أو صرف، وأطياف الفلاحين وعائلاتهم مع تباشير خيوط الفجر الأولى، ليمارسوا عملهم فى الأرض حيث الرطوبة قبل ظهور الشمس بأشعتها التى تسبب سخونة تحرق الجذور أثناء عملية الرى وهو المشهد الخالد الذى كنت أشاهده يوميا، ولم أنسَه يوما وذكرته فى الرواية.
< وهل الكتابة عن الريف ووصف الأماكن وأدوات المعيشة جاء نوعا من التوثيق؟
ــ نعم كان نوعا من التوثيق لهذه المرحلة، وبصورة عامة أنا أحب التوثيق وأحرص عليه فى مؤلفاتى. وقد كنت أظن فى البداية أن «طبيب أرياف» ستكون رواية «أنثروبولوجية»، لكنى وجدت أن المشكلات مستمرة كما هى، فعندما زُرت القرية بعدها بسنوات وجدتها على حالها مع اختلاف تحول بناية البيوت الطينية إلى أخرى قوامها من الخرسانة والطوب الأحمر.
وقد كتبت جزءا من هذه السيرة فى «قمر على سمرقند» و«يوم غائم فى البر الغربى»، التى وثقت فيها للعديد من المدن المصرية كالمنيا وأسيوط وغيرها، وبشكل شخصى أنا مُغرم بالمدن المصرية للدرجة التى تجعلنى أتساءل وأنا أشاهد مباريات كرة القدم: لماذا تسمى تلك الفرق بأسماء شركات ولا تُسمى بأسماء المدن المصرية؟
< لماذا نجدك دوما منحازا فى رسم شخصياتك إلى الطبقات المهمشة والفقيرة؟
ــ هناك نوعان من التاريخ «التاريخ الكبير»، وهو للقادة والملوك والحكام، والثانى «التاريخ الصغير» وهو للصنايعية والفلاحين والعاملين وغيرهم، وأنا دائما منحاز للتاريخ الصغير، الممثل فى الطبقات المسحوقة والفقراء، وليس لطبقة الحكام، ولذا فإن كتبت عن شخصية حاكمة كالعمدة على سبيل المثال فى «طبيب أرياف»، أجدنى أدينه وربما أضع له وصمات عار، بعكس تناولى للشخصيات الأخرى.
< اختارته ثم حملته تبعية الاختيار.. برأيك كيف نفسر منطق «فرح» الشخصية الرئيسية فى الرواية فى تعاملها مع البطل؟
ــ فرح فتاة ريفية فعلت ما فعلت ليس بهدف الحب أو المتعة أو الجنس، بل لتحقيق هدف أكبر وهو «الأمومة»، فجسد المرأة بمثابة «مصنع» مهيأ لفعل أشياء كبيرة ولا يمكن اختزاله فى وظيفة واحدة مثل «الجنس»؛ ولأنها فلاحة جسدها مثل الأرض يحتاج إلى بذرة يرعاها وينميها، فكرت فيما فعلته، فجسدها ينادى ليمارس الغرض الذى خُلق من أجله وهو «خلق حياة».
< «الرواية مكمل مهم للتاريخ» إلى أى مدى تتفق مع تلك المقولة؟
ــ الرواية أصدق من التاريخ؛ فهناك من يعتبر أن التاريخ لم يحدث، لكن الروائى يكتب عما شاهده، وعن العصر الذى يعيشه، وإذا نظرنا إلى كتب التاريخ المقررة فى المناهج الدراسية فسوف نجدها تتغير باستمرار، بينما رواية مثل «كفاح طيبة» لنجيب محفوظ تبقى كما هى لا تمُسها يد أو قرار. كما أن الروائى يبذل الكثير من الوقت والمجهود فى عمليات البحث والإعداد والتقصى، فعندما شرعت فى تأليف «كتيبة سوداء»، وهى تدور حول فرقة سودانية تذهب للحرب فى المكسيك، قرأت كثيرا عن المكسيك لكننى لم أشعر أنى أملك المعرفة التى تمكنى من الكتابة عنها، ولم أجد مفرا من السفر إلى المكسيك وزرت أربع مدن من أصل ست تناولتها فى الرواية، ولولا هذه الجولة ما استطعت الكتابة عنها ولا وصف ولاية مثل «فيراكروز» المكان الذى كلفت الكتيبة السوداء بالحفاظ عليها من ثوار المكسيك، أو وصف النهر الذى غرق فيه الجنود، أو الغابة التى نُصب لهم فخ قضى على ثلاثين جنديا منهم، وغيرها من المشاهد التى سردتها الرواية.
< إذًا، هل وصفك للصحراء فى «طبيب أرياف» وطرق الغجر لعبورها قائم على البحث أم على معرفة مسبقة؟
ــ جاءت نتيجة لمعرفتى بها، فقد قمت برحلة سابقة إلى قلب الصحراء البيضاء فى مصر، فضلا عن معرفتى بحياة الغجر أنفسهم ونمط عيشهم وثقافتهم، أما القلعة المختبئة، فهى نتاج خيال الكاتب، لكنه خيال قائم على المعرفة، فمصر بها ثلاث طبقات حضارة «فرعونية، قبطية وإسلامية»، وكل مكان فى مصر يشى بتلك الثلاثية الحضارية، ودائما ما أحرص على إظهار الثلاثية فى مؤلفاتى فسنجدها فى «يوم غائم فى البر الغربى» وهى حاضرة فى «أنا عشقت»، فعلى الرغم من أنها رواية عصرية إلا أنها تتضمن حكاية فرعونية وأخرى عن مسجد، وغيرها عن كنيسة، وهو ما أفعله دائما بوعى كامل.
< الأحداث الواقعية وحكايات التراث أبطال روايتك الأخيرة.. لماذا هذا المزج؟
ــ المزج ما بين التراث والخيال عقدة طفولة ونقطة ضعفى، فأنا شخص مغرم بإعادة حكى القصص المروية لأقصها بشكل مختلف يتضمن وجهة نظرى، وفعلت ذلك مع حكاية أخناتون، فى رواية «يوم غائم فى البر الغربى»، وعندما مزجت «السيرة الهلالية» فى «طبيب أرياف»، بوجهة نظر نسائية على لسان البطلة، كادت أن تبتلع حجم الرواية لولا أن زوجتى نبهتنى فأعدت كتابتها بشكل مختصر.
< اعتبرت أن «انكسار الروح» سيرتك التى تحاول الهروب منها.. فهل نجحت فى ذلك مع «طبيب أرياف»؟
ــ على العكس، بل هى رجوع إليها. ويجوز اعتبارها الجزء الثانى من انكسار الروح، فهى الرواية التأسيسية لكل مؤلفاتى، ومهما حاول الكاتب خلق اختلاف فى أعماله المتعاقبة يجد نفسه عائدا إلى روايته التأسيسية دون وعى.
< ذكرت من قبل أنك بصدد كتابة رواية جديدة تتناول ثورة 25 يناير فما مصيرها؟
ــ توقفت عن اتمامها؛ فالحقيقة أن هذه الرواية تلبستنى بشكل يفوق الوصف، فبت أجد صعوبة حقيقية فى البدء بكتابة عمل آخر، كما أننى لا أستطيع استكمالها خوفا من عدم النشر، خاصة أن رواية أخرى تتشابه ظروفها مع الظروف التى أتناولها فى الرواية مُنعت بالفعل، ولهذا توقفت حتى جاءت أزمة وباء «كورونا»، والعزلة التى فرضها علينا، فوجدت أن الوقت مناسبا لأنسج خيوط روايتى «طبيب أرياف».
< ما تقييمك للحركة الأدبية المصرية والعربية فى السنوات الأخيرة؟
ــ أعتقد أن بها ثراء كبيرا، وتشهد على وجود أصوات أدبية متفردة، ففى السنوات الأخيرة كنت عضو لجنة تحكيم فى ثلاث من المسابقات العربية، قرأت فيها كمية هائلة من الكتب، ففى جائزة ساويرس الثقافية وحدها قرأت 150 رواية، وفى مسابقة «الطيب صالح» قرأت 35 رواية من العالم العربى كافة، ثم فى مسابقة معرض الكتاب الدورة الماضية قرأت 80 رواية، ولذا أستطيع القول بضمير مرتاح أن الإبداع فى العالم العربى بخير. وأن هذا الجيل من الكُتاب يتمتع بحماسة وجراءة وفرص افتقدها كُتاب جيلى. قاموا بثورة على مؤسسات النشر. وبينما كنا ننتظر بالسنوات لنحظى بفرصة النشر فى مؤسسة حكومية لم يخضع هؤلاء لشروط تلك المؤسسات بل أنشاؤا دور النشر الخاصة بهم، واستخداموا التكنولوجيا لإحداث طفرة فى مستوى الأغلفة والطباعة بالإضافة إلى التنوع فى الموضوعات، والكتابة بتقنية سينمائية أجادوها من متابعاتهم للدراما المقدمة عبر قنواتها المتعددة.
< هل حصل المنسى قنديل على ما يستحقه من حفاوة؟
ــ أنا راضٍ تماما عن ما حققته من شهرة، وبقدر ما أكتب أجد الحفاوة من القراء، ولا يجوز لى المطالبة بالحفاوة إذا انعزلت عنهم لفترة طويلة ولم أقدم جديد فى الكتابة. ومن المواقف التى لن أنساها حينما حصلت على جائزة الدولة التشجيعية عام 1988، عن المجموعة القصصية «من قتل مريم الصافى»، فؤجئت بعامل بريد يطرق بابى ليسلمنى تلغراف: نهنئكم بالحصول على جائزة الدولة، وإذا بالعنوان من نجع حمادى بالصعيد، ما أصابنى بالدهشة والامتنان لهذا القارئ الذى بذل مجهودا وتكبد مشقة الذهاب إلى مكتب التلغراف ودفع من رزقه القليل ليهنئنى بالجائزة، دون أن أعرفه.
وفى رأيى يعد ذلك حفاوة كبيرة وتقدير صادق وإحساس جميل يعين الكاتب فى مسيرته، فبطبيعة الحال مهنة الكتابة من المهن التى يصعُب أن تجد لها معيار، فالكاتب يكتب بين أربعة جدران ولا يعرف إن كان أجاد أم أخفق، حتى تأتيه ردود فعل القراء الإيجابية أو الحصول على جائزة أدبية معينة.