سوريا التي أطلق عليها الرومان "قلب العالم"، كانت ولا تزال المركز الجيواستراتيجي للصراع في المشرق. فمنذ فجر التاريخ شكلت هذه البقعة الجغرافية مسرحاً لتنافس القوى الكبرى، من الإسكندر المقدوني الذي وصلت جيوشه أرض سوريا في القرن الرابع قبل الميلاد، مروراً بالرومان والبيزنطيين، وصولاً إلى الصراع المملوكي العثماني، وانتهاء بمعركة ميسلون التي دخل فيها الجيش الفرنسي دمشق عام 1920، في كل هذه المحطات كانت سوريا الجائزة الكبرى لكل من يطمح للسيطرة على المنطقة.
ومع تحول المشهد السياسي بهروب بشار الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام على الحكم في دمشق بدعم تركي، نشهد إعادة تشكيل للمعادلة الإقليمية بأكملها في إطار منظومة التوازنات المتقاطعة. فكما كانت سوريا في عهد الظاهر بيبرس درة التاج المملوكي وحصناً منيعاً ضد المغول، تسعى تركيا إلى جعلها رأس حربة في مشروع إحياء النفوذ التركي في المنطقة، في مشهد يستحضر صورة السلطان العثماني سليم الأول وهو يدخل دمشق عام 1516 بعد انتصاره التاريخي على السلطان المملوكي قانصوه الغوري حاكم مصر وبلاد الشام.
3 دوائر استراتيجية
في هذا المشهد المعقد، تتداخل ثلاث دوائر استراتيجية تتجاوز الأبعاد التقليدية في الفضاء السياسي المتداخل. الدائرة الأولى تتمثل في الديالكتيك المجتمعي المركب للتنوع الطائفي والمذهبي والعرقي حيث تشكل سوريا فسيفساء فريدة من المكونات والمجتمعات العابرة للحدود، فتضم السّنة والعلويون والدروز والإسماعيليون والشيعة، مع الوجود المسيحي العربي والآشوري والسرياني. كما يوجد قوميات مثل الأكراد والأيزيديين والتركمان والشركس والشيشان والأرمن. حيث تواجه هيئة تحرير الشام الانفصام البنيوي للسلطة في إدارتها للتنوع السوري، فهي تجد نفسها بين ضرورات إدارة دولة تقوم على التعددية الثقافية التفاعلية من جهة، وموروثها الأيديولوجي الجهادي من جهة أخرى. مما يصعب مهمتها في صياغة العقد الاجتماعي الجديد للنسيج السوري.
وعلى الرغم من الثقل الديموغرافي للمكون السني، إلا أنه يشهد حالة من الاختلاف في رؤيته لهوية الدولة. فالسنة في المدن الكبرى يمثلون نموذج الحداثة المهجنة، بينما تميل المناطق الريفية إلى النموذج المحافظ، مما يخلق حالة من التباين في المنظومة القيمية. نظراً لطبيعة هذه الحواضر المدنية التاريخية التي تضم نخباً مدنية واقتصادية وطبقة وسطى راسخة لا تقبل بالتشدد الديني. وبالتالي فهذا التباين في التوجهات داخل المكون السني نفسه يضيف بُعداً آخر للمشهد السوري المعقد.
الدائرة الثانية تتجاوز التنافس التقليدي بين القوى الإقليمية إلى صراع على نموذج الحكم والتنمية في المنطقة. فالمشروع التركي يستثمر في الهيمنة الناعمة من خلال الدمج بين الهوية الإسلامية والحداثة السياسية، في مواجهة النماذج التقليدية في المنطقة العربية. وبالتالي يعيد هذا الصراع تشكيل مفهوم الشرعية السياسية في المنطقة بأكملها. في مشهد يعيد إلى الأذهان الصراع العثماني- المملوكي التاريخي على بلاد الشام. وتزداد هذه المخاوف عمقاً مع ما يثيره حزب العدالة والتنمية التركي لدى هذه الدول من هواجس تاريخية حول إحياء "العثمانية السياسية" كقوة مؤثرة في المنطقة.
أما الدائرة الثالثة، المتمثلة في المعادلة الكردية، فهي تتجاوز القضية القومية التقليدية إلى إعادة تعريف مفهوم الدولة-الأمة في الشرق الأوسط. فالمشروع الكردي يحمل في طياته طموحاً استراتيجياً لتأسيس دولة كردية كبرى تضم مناطق من أربع دول سوريا وتركيا والعراق وإيران. فإن هذا الطموح يجعل من التجربة الكردية في شرق الفرات السوري أكثر من مجرد نموذج للحكم المحلي، بل خطوة محتملة نحو مشروع قومي أوسع يهدد وحدة أربع دول في المنطقة. ويزداد تعقيد المشهد مع تشابك المصالح الدولية، حيث تستثمر بعض القوى العالمية في دعم الطموحات الكردية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
4 ركائز للحل
بينما يسود حالة من عدم اليقين الاستراتيجي تعيق تشكيل رؤية مستقبلية واضحة يقف المشهد السوري اليوم على مفترق طرق يُنعش في الذاكرة لحظات تاريخية فاصلة، والتاريخ يقدم نماذج في إدارة مثل هذه الأزمات المعقدة. فتجربة معاهدة ويستفاليا (1648)، التي أنهت حروب أوروبا الدينية، قدمت نموذجاً في إدارة التنوع الديني من خلال مبادئ رئيسية؛ احترام سيادة الدول، مبدأ عدم التدخل، والمساواة القانونية بين الأطراف المتنازعة. كما أسست لنظام ضمانات دولية متعدد الأطراف، وهو ما يمكن تطبيقه في السياق السوري عبر إطار إقليمي- دولي يضمن حقوق جميع المكونات. كما تقدم تجربة البوسنة والهرسك بعد اتفاقية دايتون (1995) نموذجاً معاصراً في إدارة التنوع الإثني والديني إلى دولة مستقرة نسبياً عبر نظام فيدرالي يحترم خصوصية كل مكون، وآليات تمثيل متوازن في مؤسسات الدولة، وضمانات دولية صارمة. وقد أثبتت التجربة أن التنوع يمكن أن يكون مصدر قوة عندما يُدار بحكمة.
في ضوء هذه التجارب التاريخية والتحديات المعاصرة، يمكن تصور حل للأزمة السورية يقوم على أربع ركائز أساسية؛ الأولى، نظام لامركزي – فيدرالية مرنة تحترم التنوع الطائفي للمناطق المختلفة مع الحفاظ على وحدة الدولة، من خلال مجالس محلية منتخبة بصلاحيات واسعة، وتوزيع عادل للموارد بين المناطق، ونظام تمثيل نسبي في المؤسسات المركزية. والثانية، إطار إقليمي متوازن يضمن عدم هيمنة قوة واحدة ومشاريع تعاون اقتصادي عابرة للحدود. والثالثة، ضمانات دولية تحمي حقوق جميع المكونات. والرابعة مشروع تنموي شامل يقوم على إعادة هيكلة اقتصادية وفق منطق الليبرالية الجديدة يحول سوريا من ساحة صراع إلى مركز تعاون اقتصادي عربي إقليمي دولي، يشمل خطة إعادة إعمار على نمط خطة مارشال الأمريكية لتعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومناطق تجارة حرة مع دول الجوار، ومشاريع بنية تحتية عابرة للحدود.
كما ويمكن الاسترشاد بتجارب معاصرة مثل نموذج دولة ماليزيا في إدارة التنوع الإثني والديني، وتجربة شمال إيرلندا في تحويل النزاع المسلح بين البروتستانت والكاثوليك إلى عملية سياسية إثر اتفاقية 1998. ولاشك أن هذه الرؤية المتكاملة المستندة إلى دروس التاريخ ومتطلبات الحاضر، تمثل مخرجاً من المأزق السوري الراهن نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.
كاتب سوري