اكتمل الوحي الإلهي، بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، وذلك يوم عرفة في حجة الوداع للنبي محمد -صل الله عليه وسلم-؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان، مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه -صل الله عليه وسلم-.
وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسئولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى، وعلى مدار أكثر من 1000 عام ظهر تراث إسلامي زاخر بالكتب في التفسير، والحديث، والسيرة، والفقه، وغيرها من العلوم الشرعية.
وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.
الحلقة الثامنة عشر..
العز بن عبد السلام.. سلطان العلماء وفقيه المقاصد
بحسب ما أورده مركز الأزهر للفتوى الإلكترونية، فإن الإمام أبومحمد عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسَّلام بن أبي القاسم بن حسن السُّلَمي كان دمشقي المولد والنشأة، ومصري الإقامة والمرقد، وشافعي المذهب والتدريس، وهو أحد علماء الإسلام الأعلام، الملقب بـ"العز"، و"عز الدين"، و"سلطان العلماء".
ووُلد العز بن عبدالسلام عام 577 هـ في مدينة دمشق، ونشأ في أسرة فقيرة، ولم يتهيأ له طلب العلم صغيرًا، لكنه حين بدأه تفوق على أقرانه، حتى صار عَلَمَ الزمان.
ودرس على يد أكابر علماء عصره في دمشق، ثم رحل إلى بغداد، فتتلمذ على كبار علمائها، حتى نبغ في علوم العقيدة، والتفسير، وعلوم القرآن، والحديث، والفقه وأصوله، والسيرة النبوية، والنحو، والبلاغة، والتصوف.
وتولى القضاء والإفتاء والتدريس، وخطب في الجامع الأموي، ودرّس في زاوية الغزالي، وكان من أبرز تلاميذه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، الذي لقّبه بـ"سلطان العلماء".
وأجمع العلماء، على رجاحة عقله، وعلو همته، وقوة حجته، وسعة علمه، وجودة حفظه، وبراعة تصانيفه. كما عُرف بمواقفه الجريئة في إحقاق الحق، وإنكار المنكر، إلى جانب زهده وعفته وتواضعه.
ما أبرز ما تضمنه مقاصد الصوم؟
بحسب ما قاله العز بن عبدالسلام، فإن الصيام يحقق مقاصد عظيمة تتجلى في تهذيب النفس وتعزيز التقوى، إذ يربي في الإنسان ملكة التحكم في الشهوات وضبط الغرائز؛ مما يجعله أكثر التزامًا بسلوكيات الخير والتقوى، مستلهمًا ذلك من قوله تعالى: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة: 183).
ورأى أن الصيام يعمّق لدى الصائم الإحساس بمعاناة الفقراء، فيشعر بجوعهم وعطشهم فيرق قلبه لهم، ويحثه ذلك على العطاء والبذل؛ مما يعزز التكافل الاجتماعي ويقوي أواصر الرحمة بين أفراد المجتمع.
ويعدّ الصيام، مدرسةً في الصبر والإرادة، حيث يدرب الإنسان على تحمل الجوع والعطش، مما ينعكس على قدرته في مواجهة تحديات الحياة بقوة وثبات، كما أن له بعدًا صحيًا، فهو ليس مجرد طهارة معنوية، بل يحقق كذلك تطهيرًا للجسد، إذ يمنح الجهاز الهضمي راحة، ويسهم في إزالة السموم؛ مما يجعله عبادة تجمع بين الفائدة الروحية والجسدية في آنٍ واحد.
أما من الناحية الإيمانية، فإن الصيام يتميز بكونه عبادة خالصة بين العبد وربه، لا يطلع عليها أحد إلا الله، ولذلك فهو مظهر من مظاهر الإخلاص الصادق، حيث يتخلى الصائم عن شهواته سرًّا وعلانية، ابتغاء مرضاة الله؛ مما يجعله تجربة روحانية فريدة في حياة المسلم.
وختم المؤلف، حديثه عن فضل الصوم في سائر الأيام، رمضان وغير رمضان، كصيام 6 أيام من شوال، وصيام 3 أيام من كل شهر، وصيام الاثنين والخميس.. ونحو ذلك.
وبين أن الصوم يقي صاحبه من عذاب النار، وأن النبي كان يُكثرُ منه دون أن يستكمل صيام شهر إلا رمضان؛ مُشيرًا إلى الأيام التي نهت الشريعة عن صيامها كيوم عيد الفطر، وعيد الأضحى، وأيام التشريق الثلاثة، وفقا للأزهر الشريف.
مكانة الكتاب وأثره
حظي "مقاصد الصوم" بتقدير العلماء، واعتُبر من أهم الدراسات المقاصدية حول الصيام، حيث امتاز بأسلوبه التحليلي العميق، وابتعاده عن السرد الفقهي التقليدي.
وقال عنه الإمام القرافي في الفروق: "كان العز بن عبدالسلام أعلم الناس بمقاصد الشريعة، وكتبه تشهد له بذلك".
وأثنى عليه ابن دقيق العيد، معتبرًا أن مؤلفاته أظهرت بُعدًا جديدًا في فهم التشريع الإسلامي.
وغدا نلتقي مع كتاب جديد من المكتبة الإسلامية...
اقرأ أيضا: