مئوية سيد درويش: شجاعة وكبرياء وذوق رفيع.. فنان الشعب في مرآة عبد العزيز البشري - بوابة الشروق
الأربعاء 8 يناير 2025 1:52 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مئوية سيد درويش: شجاعة وكبرياء وذوق رفيع.. فنان الشعب في مرآة عبد العزيز البشري

محمد حسين:
نشر في: الإثنين 18 سبتمبر 2023 - 1:06 م | آخر تحديث: الإثنين 18 سبتمبر 2023 - 1:09 م

في منتصف شهر سبتمبر الجاري تحل الذكرى المئوية لرحيل الموسيقار الكبير سيد درويش، والذي فارقنا بعام 1923 قبل أن يجاوز عمره الثانية والثلاثين من عمره تاركا إرثا هائلا من الألحان والمواقف.
ولعبت الأقدار والمصادفات دوراً كبيراً بحياة الشيخ سيد درويش ؛ فبينما كان يمارس عمله المتواضع- الذي اضطرته ظروف وفاة والده أن يلتحق به، في أعمال بناء إحدى العمارات بالإسكندرية، كان يشدو بصوته العذب لاجل أن يشد من عزيمة زملائه ويهوّن عليهم مشاق العمل ،التقطت صوته أذن أمين عطا الله شقيق سليم عطا الله صاحب الفرقة التمثيلية المعروفة وقتها، وعرض عليه العمر بالغناء ضمن الفرقة، وكانت انطلاقة احترافه الموسيقى.

ولا تزال تجربة سيد درويش المتفردة حاضرة حتى يومنا هذا، كمادة ثرية للقد والتحليل والبحث في الأسباب والمقومات التي صنعت منه وجهاً أيقونياً ونغمة خالدة بتاريخ الموسيقى العربية، واختار درويش طيلة فترة تجربته الفنية طريق الانحياز للطبقات الشعبية البسيطة ومشاركتهم القضايا والهموم؛ فقد خالطهم وكان بينهم بسنوات التي سبقت انطلاق نجوميته، واستمرت في أكثرها توهجا.
لكن ذلك لم يتعارض مع إعجاب النخبة المثقفة بتجربة سيد درويش، واقترب منه المفكر عبد العزيز البشري بعدما لمس منه موهبة فذة واستثنائية، وعبّر وحلل شخصيته وتجربته في مقالات وكتابات عدة، ومنها كتابه " المختار" والذي سنعرض سطوراً منه بالتقرير التالي :

خفة ولباقة وروعة أداء

يقول عبد العزيز البشري :"فإذا كان سيد درويش يوم مهبطه القاهرة مقدورًا فيها من خمسة نفر أو ستة، فلقد كان يومئذ مغمورًا عند عامة أصحاب الغناء وأسبابه بوجه خاص، وعند جَمهرة الناس بوجه عام".
ويضيف :" ليت شعري: كم سنة كان ينبغي أن يقضي هذا الفتى في نضال وكفاح حتى يدرك حظه، ويرتفع صيته، ويسلم له مشيخة أهل الفن بمكان الإمامة، ويعقدوا له لواء الزعامة؟ وأنتم أدرى بأن خلال الغيرة والحسد والحقد قَلَّ أن تجد لها مرعًى أخصب من صدور أصحاب الفنون".
ويكمل "لم يمضِ على مهبط هذا الفتى بضعة أشهر حتى رأيته يغني في «كازينو» البسفور ومن حوله أحذق العازفين وأجَلُّهم في مصر قَدْرًا، ووقف بين يدي «تخته» أئمة الفن من أقطاب نادي الموسيقى، وهو يغني صوتًا (دورًا) من تلحينه، ولعله كان من نظمه أيضًا: يغني ويتصرف، ويعلو ويهبط، ويتيامن ويتياسر، ويخرج من فن إلى فن، ويتعطف من نغم إلى نغم، ويلم بالقديم، ثم يميل إلى ما أبدع من الحديث، وكل أولئك يفعله في خفة ولباقة وقوة صنعة وروعة أداء، وترى القوم وقد أمسكوا كلهم رهن بيانه، وطوع بنانه، وكأنه فيهم «دكتاتور» قد خلص له وجه السلطان كله، لا اعتراض لقوله، ولا تعقيب لإشارته.

ثورة كبيرة دون قطرة دماء

وواصل حديثه: كان سيد درويش، عليه رحمة الله، متمكنًا من فن الموسيقى أيما تَمَكُّن، واثقًا من نفسه أيما ثقة، وأكبر آيات هذه الثقة بالنفس أنه تقدم إلى هذا التجديد، وهو لما يَزَلْ مغمورًا منكور المحل، والتجديد ابتداع ومطالعة للجماهير بغير المألوف، وقلَّ أن يعمد المرء إلى هذا قبل أن يذهب له في فنه صِيت وذِكْر يتكئ عليهما في جديده، ويصد بهما صولة التعصب للقديم. وليس كل خطر الرجل في أن يكون متمكنًا في فنه، عالمًا بأصوله وفروعه، وليس كل خطر الموسيقى بنوع خاص، في أن تهديه كفايتُهُ وعِظَمُ مقدرته إلى أن يَطْلَعَ على الناس بجديد فحسب، مهما كان هذا الجديد جاريًا على أحكام الفن موصولًا بأسبابه، بل إن الكفاية كل الكفاية، والبراعة حق البراعة أن لا يَنْشُز جديده على الآذان ولا تصطك به الأذواق، وكذلك كان جديد سيد درويش، كما كان جديد عبده الحامولي من قبله، كلاهما أضاف إلى الموسيقى المصرية جديدًا، وكلاهما تصرف فيها تصرفًا طريفًا، فما نبا سمع، ولا تَعَثَّر طَبْع، بل لكأن ما جاءا به إنما كان دسيسًا في الطبع، كامنًا في قرارة النفس، حتى لتحسب أن كل ما لهما فيه من فضل، إنما هو في مجرد الغوص عليه واستخراجه من مطاوي الطباع، وتجليته على الأسماع! نعم لقد اتسعت الموسيقى المصرية وأثرت، وأصابت صدرًا محمودًا من موسيقات الأمم الأخرى شرقية وغربية، ولقد تم هذا الانقلاب الخطير، وإن شئنا قلنا هذه الثورة الكبيرة دون أن تُرَاقَ قطرة دم واحدة.

من أخطأه الذوق فقد أخطأه كل خير

ويشير البشري ، لسمة من سمات درويش وهي الذوق البارع النافذ، فما إن لَحَّنَ سيد درويش فكان المعنى شديدًا إلا قَوَّى لحنه، ودَعَّمَ ركنه، وشد بالصنعة متنه، فسمِعْت له مثل قعقعة النبال، إذا استحر القتال، أو مثل زئير الآساد إذا تحفَّزَتْ للصيال، وإذا جنح الكلام إلى اللين كان لحنه أَرَقَّ من نسج الطيف، وألطف من النسمة في سحرة الصيف، وما كان القول في بر الحبيب بوعده، ووفائه بعد طول جفائه وصدِّه، إلا طبع الكلام، في أمرح الأنغام، حتى ليكاد الغناء يتمثل لك عصفورًا يثب في الروض بين أغصانه، ويستقل ما شاء من ذُرَى أفنانه، وقد يَنَعَ بين يديه الثمر، وضحك من حوله الزهر، وما كان الحديث في التوسل والاستعطاف، إلا أتى بما يُلِين أقسى الكبود، ويكاد يُقطر الماءَ من الحجر الجلمود، ولا كان في وصف القطيعة وما فَعَلَتْ تباريح الهوى، إلا وَخَزَ الحشا، وأشاع الأسى، وأذكى الشجون، فتبادرت الدموع من الجفون، وهكذا! … وبعد، فالفن كله ذوق، والعلم كله ذوق، والحياة كلها ذوق، فمن أخطأه الذوقُ فقد أخطأه كلُّ خير!

اعتزار بكرماته وفنّه

وفي أحد المواسم الصيفية بالإسكندرية ساقت الأقدار أحد الفنانين العاملين بفرقة الشيخ سلامة حجازى إلى المقهى الذى كان يغنى فيه المطرب الشاب سيد درويش، فأذهله ما سمع وأسرع إلى الشيخ سلامة يقص عليه ما حدث، مما دعا الشيخ وشوقه إلى الاستماع لهذا الشاب، وتوجه رسول الشيخ سلامة يزف إلى سيد درويش رغبة الشيخ فى الاستماع إليه ودعاه إلى مقابلته ولكنسيد درويش الفنان الناشئ رفض الانتقال من مقهاه ؛فمن أراد أن يستمع إليه فليتفضل مشكورا بالحضور إلى هذا المكان المتواضع.
وذهل مندوب الشيخ من تصرف سيد درويش، ومن يكون سيد درويش هذا، وعاد بخفي حنين يقص على الشيخ سلامة غرور وكبرياء هذا الشاب ؛ بينما أعجب الشيخ سلامة باعتزاز هذا الفنان الناشئ بكرامته وبفنه، وأصرّ على أن ينتقل إليه ليسمعه، وفعلا أطربه ما سمع من سيد ودعاه إلى اللحاق به ليقدمه إلى جماهير القاهرة.

تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك