في منتصف سبتمبر من عام 1923، غيّب الموت الموسيقار الكبير سيد درويش عن عمر مبكر لم تجاوز عدد سنواته عتبة الثانية والثلاثين؛ لكن بقراءة أولية لتاريخ فنان الشعب سيد درويش، ستؤكد لنا أنه عاش أضعاف تلك السنوات بإنتاج فني غزير؛ حيث قدم ما يجاوز 250 عملاً موسيقيا وجمعت ألحانه ألوان النغم بتنوعها؛ إذ لحن الموشح والطقطوقة والدور والمسرح الغنائي؛ لجانب الأغنية الوطنية التي كان موضوعه الرئيس وصاحب النصيب الأكبر في مشواره، وكان عام 1919 أكثر السنوات إنتاجا فى تاريخ درويش الفني، وفقا لكثير من المؤرخين والنقاد، إذ قدم فى هذا العام 75 لحنا، وهذا يدل على أنه كان متفاعلا مع مجريات الأحداث السياسية والمجتمعية.
ولد سيد درويش في 17 مارس 1892 بحي "كوم الدكة" بالإسكندرية، لأبوين رقيقي الحال وعندما بلغ مدارج الطفولة أرسله والده إلى الكتّاب ثم إلى مدرسة شمس المدارس، وفي هذه المدرسة ظهرت أولى بوادر موهبة الشيخ سيد الموسيقية؛ إذ أن نجيب أفندي فهمي(مسؤول بالمدرسة) كان شغوفا بالموسيقى؛ فقام بتعليم التلاميذ بعض الأناشيد فأظهر درويش تفوقا ظاهرا في إلقائها لفت إليه الأنظار.
توفي والده وهو لايزال بسنوات طفولته، لذا لاقى في سبيل عيشه وتحصيل قوته وقوت أسرته بؤسا وحظا عاثرا، فأخذ أولا في الارتزاق بقراءة القرآن الكريم، ومرة أخرى توجه لأعمال التشييد والبناء، والتي أرضت له بترتيب القدر نزعته وميوله للموسيقى؛ فبينما كان يمارس عمله ببناء عمارة بالإسكندرية كان يغني ليشد من عزيمة زملائه ويهوّن عليهم مشاق العمل، التقطت صوته أذن أمين عطاالله شقيق سليم عطاالله صاحب الفرقة التمثيلية المعروفة وقتها، وعرض عليه العمر بالغناء ضمن الفرقة، وكانت انطلاقة احترافه الموسيقى.
وفي أواخر سنوات عمره وقبل أن يداهمه الموت المفاجئ، قبل عزل الخديو عباس حلمي الثاني تقدم سيد درويش بطلب يلتمس ترشيحه لبعثة فنية إلى الخارج يدرس فيها الموسيقى على نفقة الحكومة المصرية، وأرفق بطلبه دور عواطفك دي أشهر من النار التي كانت بداية كل شطرة منه تبدأ بحرف من اسم عباس حلمي خديو مصر وهذا الدور يعتبر أول أدوار درويش التي لحنها تحية لخديو مصر أملا في الموافقة على طلبه ولم يستجب عباس حلمي الثاني واكتفى بمنحه مكافأة مالية، وذلك وفقاً لم ذكره المؤرخ الموسيقي الدكتور زين نصار، في كتابه "موسوعة الموسيقى والغناء في القرن العشرين في مصر".
قال الناقد عبدالفتاح البارودي: "تمنى درويش السفر إلى إيطاليا لاستكمال دراسته الموسيقية، ومن البديهي أن من الأسباب الهامة احساس الموسيقار بضعف مستوى الموسيقى في عصره"، وذلك في مقال له نشر عام 1965 بمجلة الثقافة.
ويعتقد البعض أن الأقدار لو ساندت درويش وتحققت أمنيته بالسفر لإيطاليا لدراسة الموسيقى وجمع بين الموهبة الفذة والدراسة الأكاديمية، لنتج عنه أثراً أكثر إعجازاً بتاريخ الموسيقى العربية، ولزادنا الشيخ سيد من إنتاج أكثر نضجاً في الجمل اللحنية وأكثر ثراءً في الموضوعات والأفكار.
لكن على جانب آخر، يذهب البعض بأن طموح درويش لا يخرج عن كونه رغبة ونزعة شخصية تولدت داخله، وأنه بالفعل قد حصّل نتائج السفر والدراسة في مسيرته الفنية دون حاجة أن يتلقى العلوم الموسيقية داخل قاعات الدرس بالمعاهد الأوربية، وفي تلك المسألة قدّم الدكور فيكتور سحاب رؤية تحليلية بصفحات كتابه "سيد درويش.. المؤسس" والتي نستعرضها في السطور التالية:
اطلاع واستماع لأوبرات الكبار
يقول فكتور سحاب إن عبقرية سيد درويش كانت بحاجة، مثل أي عبقرية أخرى، إلى احتكاك حضاري ما لتبدي كـل كنوزها وتستكشف كل آفاقها؛ لكن الشيخ سيد كان قبل مماته، ومن غير سفر إلى إيطاليا، أبدى الكثير من جوانب نبوغه وعلمه في تجديد الموسيقى العربية، اطلع على الكثير من علوم الغرب الموسيقية وهو لما يزل في مصر؛ فاستمع إلى أوبرا توسكا، وأوبرا مدام باترفلاي، لبوتشيني، وأوبرا البلياتشو لليونكافالو، وأوبرات كثيرة غيرها لكبار موسيقيي إيطاليا، في تياترو الكورسال وغيره من المسارح التي كانت تستقدم فرق الأوبرا الإيطالية.
أشار سحاب بموضع آخر من كتابه لثقافة درويش وتأسيسه العلمي، حيث أن الشيخ سيد كان قد بدأ يتعلم في مصر أصول كتابة النوتة، حتى أنه خاض سجالاً صحافياً حامياً مع منصور عوض على صفحات "المقطم" وغيرها، في شأن أول من ابتكر أسلوب تدوين "ربع الصوت" في الموسيقى العربية والموسيقى التركية كذلك أحاط نفسه بموسيقيين عالمين بأصول التدوين والتوزيع الموسيقي والعلوم الموسيقية المساعدة، مثل مسيو كاسيو وجميل عويس وغيرهما.
الأصل خيال وإحساس
وأكد سحاب على تعبيره "العلوم الموسيقية المساعدة"، لأن الأصل في الموسيقى: الخيال الموسيقي (أي الإلهام والقدرة على إنشاء الألحان) والإحساس الموسيقي (أي القدرة على التعبير عن الوجدان والعاطفة من خلال الموسيقى)، وفي هذين العنصرين الأساسيين، كان الشيخ سيد متفوقا تفوقاً حاسماً لا مجال لمزايد عليه، لا في إيطاليا ولا في غيرها. ولو قيض العمر له ليتعلم في إيطالية، لاستزاد في العلوم الموسيقية المساعدة على الأرجح، لأن الأصل لم يكن يعوزه أبداً.
وواصل سحاب، إن عدم فهم الحدود بين السليقة (الفطرة والطبيعة) والاكتساب في الموسيقى، وتضخيم دور العلم على حساب الموهبة والملكة، يقودان إلى توهّم خطر للغاية، وهو أن العلم الأوروبي يستطيع أن يُغنينا عن تراثنا وعن الموهبة ووجه خطورة هذا الوهم، أن عدداً من المربين الموسيقيين العرب، لا يزال إلى اليوم يعظم شأن العلوم الموسيقية المساعدة، ويهمل العوامل الأساسية أو يحتقرها، فلا يبالي بتنشئة أبنائنا على تجويد القرآن والتواشيح والمدائح.
اختزن الموسيقى وذوبها في سبيكة نفيسة
وأكد سحاب بأن الشيخ سيد درويش كان عالماً موسيقياً كبيراً، ولو لم يقيض له السفر إلى أوروبا؛ فقد اختزن في أعماق وجدانه الموسيقي وهو فتى مقامات التجويد القرآني، وإيقاعات العروض العربي، ونهل من ينبوع عبده الحامولي ومحمد عثمان، وتعلم في رحلتيه إلى الشام التواشيح، على عثمان الموصلي وغيره، واستمع إلى الموسيقى الكنسية المشرقية العربية، وسماها : أوبرا إلهية ثم استمع إلى الباعة وأبناء الحارة في مصر، وذوّب كل هذا في سبيكة واحدة نفيسة المعدن.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام