ربما كان ما حدث بعد أقل من 3 سنوات على وفاة علم الموسيقى العربية، فنان الشعب سيد درويش، بداية لمسار امتد لقرن من الزمان من معارك وخلافات نشبت حول اسمه وعبقريته واستخدم فيها دون إرادة منه، وفي الذكرى المئوية لوفاته في 15 سبتمبر 1923م، نتذكر إحدى الوقائع التي دارت حوله واستخدم فيها اسم وعبقرية سيد درويش وقوداً لمعركة ربما كان الدافع من ورائها مجد شخصي وأهداف خفية.
يروي لنا الدكتور نبيل حنفي محمود، في باب "أشهر المعارك الفنية"، بمجلة "الهلال"، فبراير 2003، وقائع تلك المعركة التي دارت رحاها لسبعة أشهر على صفحات أبرز المجلات الفنية في مستهل القرن العشرين، والتي تم فيها استغلال اسم سيد درويش والدفاع عن تراثه، ذريعة كاذبة للنيل من صديقه الموسيقار الصاعد حينها زكريا أحمد.
كان 3 مارس 1916، شهد بداية صداقة بين موسيقارين عظيمين، هما سيد درويش وزكريا أحمد -استمرت حتى وفاة درويش- عندما سافر زكريا إلى الإسكندرية ليستمع إلى الموسيقار الذي طبقت شهرته ربوع مصر، ووفقا للمؤرخ الصحفي صبري أبو المجد في كتابه الموثق عن حياة زكريا أحمد وأعماله، يعود زكريا في الصباح التالي إلى القاهرة، مصطحبا سيد درويش، ليبدأ درويش صعوده لقمة المجد الفني من القاهرة، بينما كان زكريا أحمد يخطو خطواته الأولى في عالم التلحين والغناء.
وقبيل ذلك بسنوات كان زكريا أحمد قد بدأ رحلته مع الغناء بالعمل كقارئ للقرآن الكريم، في منازل الأعيان والمآتم، وتلقى دروسه الأولى في فنون الغناء والتلحين والإنشاد على يد مجموعة من الشيوخ مثل: درويش الحريري وعلى محمود وإسماعيل سكر، وفي ذلك الوقت تلبست مظاهر الحياة العامة بمصر فورة من النشاط استمدتها من الروح الوطنية التي بثها زعيمها مصطفى كامل، ظهر أثرها بمجال الفن كغيره من المجالات، وفاضت القاهرة والإسكندرية ومدن الأقاليم الكبرى بالمسارح والفرق الفنية، لينطلق الفتى زكريا أحمد ليعب من هذا الفيض من الفنون التي قدمتها مواهب حقيقية مثل الشيخ سلامة حجازي، ويكون على موعد مع أولى خطواته نحو الشهرة، عندما أتاح له أستاذه الثاني الشيخ على محمود الفرصة في عام 1916م لوضع ألحان دينية ترنم بها الشيخ "علي".
ساهمت تلك الخطوة في تعريف الناس بزكريا كملحن جديد، ولكن كان من أوائل الألحان التي ذاعت وجاءت لزكريا أحمد بالشهرة في شكل لعنات صبتها عليه الصحف لابتذال كلماتها، كانت طقطوقة "ارخى الستارة اللي في ريحنا" التي نظمها الشيخ يونس القاضي، قفزت هذه الطقطوقة وكثير غيرها، باسم زكريا أحمد إلى صدارة الصف الأول من ملحني هذه الفترة، وبدأ زكريا أحمد يقطف ثمار موهبته التي جعلته المرشح الوحيد لاحتلال مكان الشيخ سيد درويش في عالم الغناء والتلحين، وذلك بإقبال أهل الغناء وأصحاب الفرق المسرحية وشركات الأسطوانات على ألحانه. ووفقا لما قاله الكاتب والصحفي كمال النجمي في كتابه الغناء المصري.. مطربون ومستمعون، فقد اكتسب زكريا أحمد من صداقته مع سيد درويش "القدرة على المساجلة بألحان عميقة التأثير وعلى صياغة الألحان من مختلف مقامات الموسيقى العربية وبكل ألوان الغناء".
الطلقة الأولى..
لكن ما حدث بعد أقل من 3 سنوات من وفاة درويش، ربما كان له عظيم الأثر في نفس زكريا أحمد وفيما وصل له من نجاح بعد ذلك، فقد حدث أن هاجم محمد البحر – ابن الشيخ سيد درويش – الشيخ زكريا في عدد مجلة "المسرح" رقم 33 بتاريخ 19/7/1926م. ولم يقتصر الأمر على "المسرح" فقط إذ حمل العدد رقم 38 من مجلة روز اليوسف بعدها بيومين نفس الرسالة.
سارع الشيخ زكريا أحمد بالرد على ما قذفه به "البحر" من اتهامات على صفحات "المسرح" و "روزاليوسف"، وقد نشرت المسرح رد زكريا أحمد في عددها التالي، في باب "على الهامش"، وقد كانت تلك هي الطلقة الأولى.
ومع رسالة أخرى من محمد البحر حملها أيضا العدد 35 من "المسرح"، بعنوان "مش بس ده"، استهلها البحر بقوله "كنت مع روزاليوسف وقرائها على ميعاد بأن أنشر لهم في عددها القادم النوتة التي طلب إلى نشرها حضرة الأستاذ زكريا أحمد، فأجبته إلى طلبه فضلا عن كوني وفرت عليه وعلى القراء نشر نوتته التي وعد بنشرها عقب نشري مباشرة".
الطلقة الثانية..
جاءت الطلقة الثانية على حد وصف الدكتور نبيل حنفي محمود في المعركة لتكشف شخصية قائدها، والمخطط لها، وكانت في شكل رسالة بعث بها الشيخ يونس القاضي إلى مجلة المسرح نشرت بالعدد رقم 35، جاءت بعنوان "ليهدأ زكريا"، حملت العديد من المطاعن في شخص زكريا أحمد وفنه، اختتمها يونس القاضي بتحد لزكريا أحمد قائلاً: "وأما طلب الشيخ زكريا أحمد نشر النوتة، فهذا يحتاج إلى سؤال الملحن اللاحق هذه الأسئلة والإجابة عليها، وأنا أتبرع بحفر الكليشيهات الخاصة بالنوتة على حسابي، وإليك الأسئلة: على يد من تعلمت الموسيقى؟ هل تعرف النوتة الموسيقية؟ هل يصدق الشيخ درويش الحريري إذ قال إنك (بتهبش) كالغريق؟ والشيخ على محمود إذا قال إنك فاضي؟ هل لم تتفق مع أحد أصدقائك على أنك تأخذ الحركات التي أهملت وتذيعها لتُحييها من جديد؟ حسبك اليوم هذه الأسئلة، ومتى أجبت عليها رجوت البحر أن يعتبرك موسيقيا وينشر النوتة".
التطابق أو عدمه..
ويشير حنفي محمود إلى أن ما ألمح إليه محمد البحر في رسالته في العدد 35، عن نشر مقارنة بين النوتة الموسيقية للحن سيد درويش "شوف بختك" وإلى جوارها النوتة الموسيقية للحن زكريا أحمد "أدي وقت البرنيطة"، كان كافيا لحل القضية حلا نهائيا، ينتهي إما بتطابق اللحنين أو بعدم تطابقهما. لكنه يشير أيضا إلى أن العدد 36 من "المسرح"، قدم الدليل على أن المعركة ضد زكريا أحمد قد تم التخطيط لها وتوزيع أدوار المشاركين فيها بشكل مسبق.
مساندة..
لكن زكريا أحمد لم يقف موقف المتفرج مما يراد به، فقد بادر بالرد، ولكنه لم يكن وحيدا أيضاً، فقد دافع عنه لفيف من أهل الغناء والأقلام الصحفية والجمهور، كان منهم الشيخ حامد مرسي مطرب فرقة الماجيستك، والذي حاول إثناء محمد البحر من خلال لقائه الشخصي به عن المضي قدما في هذه المعركة.
ولكن وفق محمود فقد جاء رد يونس القاضي على حامد مرسي في رسالته المنشورة بالعدد 38 من المسرح، بمثابة إرهاب لمن تسول له نفسه الانحياز إلى جانب زكريا أحمد أو الدفاع عنه، ومصاحبا للحلقة الثانية من سلسلة من مقالات نشرتها المسرح ليونس القاضي تحت عنوان واحد: "الشيخ – زكريا – أفندي"، واستمرت في الظهور بانتظام في كل أعداد المجلة التي صدرت طوال شهري سبتمبر وأكتوبر من نفس العام، استعرض يونس القاضي في مقالاته كل ما في وسعه وسائل ومن فنون الهجاء من أجل هدف واحد، هدم زكريا أحمد.
ألف صنف..
وبينما نجحت محاولات معسكر الشيخ يونس القاضي في ضم مهاجمين جدد وفتح جبهات هجوم جديدة ضد زكريا أحمد في بعض الصحف، فإنها لقيت فشلا ذريعاً لدى صحف أخرى، كان منها مجلة "ألف صنف" التي أصدرها الأديب بديع خيري في وقت معاصر لصدور "المسرح" فقد وقفت "ألف صنف" بداية المعركة موقف المحايد، لكنها رفضت نشر رسالة للكاتب محمد محمود دوارة، يكرر فيها اتهاماته لزكريا احمد بالسطو على تراث سيد درويش، مبررة ذلك أنه "ظلم وافتراء وليس من العدل أن نعينه عليه".
لم تكن مقالات يونس القاضي التي ظهرت في مجلة المسرح طوال شهري سبتمبر وأكتوبر من عام 1926 هي مصدر الهجوم الوحيد على زكريا أحمد خلال ذروة المعركة، وإنما صاحبتها مقالات أخرى مهاجمة لزكريا أرسل بها بعض القراء أو الكتاب الذين - وفق ما يري محمود - لا يعلم إلا الله هل كانت أسماءهم حقيقة أم ابتدعها يونس القاضي وعبد المجيد حلمي.
ووفق محمود فبتوالي صدور مقالات الهجوم، بات القراء ينتظرون كلمة الختام في مشوار فني لملحن لاحت بداياته مبشرة وواعدة، ولكن الرياح أتت بما لم تشته نفس يونس القاضي، فقد جاءت نهاية هذه المعركة التي شغلت الرأي العام بمصر قرابة سبعة أشهر على يد أحد هواة الموسيقى يدعى محمد فاضل شاهين، عرف نفسه أنه (ملازم ثان بالجيش المصري)، وقد أرسل لمجلة "ألف صنف" برسالة حوت ملاحظاته حول المعركة.
حول الشيخ زكريا..
وجاء في الرسالة التي نشرت بعنوان "حول الشيخ زكريا": "فما كان من المسرح إلا أن (زودها) وبانت فيه الحكاية وظهرت ظهور الشمس بأنهم يريدون مهاجمة الشيخ زكريا وتشويه سمعته، وخصوصا ما كتبه الأديب الشيخ يونس القاضي عن الشيخ زكريا بالتتابع فكله ينافى بعضه، لأنه قال عن الشيخ سيد درويش أنه وجد صوت الشيخ زكريا غير حسن ولا يليق وجوده في جوقة الملحنين في تلحين رواية (شهرزاد)، ولم يتمكن الشيخ زكريا أن يحفظ (شطره) من لحن من الشيخ سيد (في أربع ساعات)، وفى مقال آخر يكتب أنه سارق من الشيخ سيد في أربع ساعات، ومن البديهي أن كل سارق يقظ أو شاطر على الأقل، فهذا ينافى ما قاله الشيخ يونس في أن الشيخ زكريا غبي لدرجة عدم حفظه شطرة من لحن في أربع ساعات، وقرأت في المرسح - قول الشيخ يونس - أن الشيخ زكريا سارق لحن (مصطفاكي) وعمله لحن (تركى أفندم)، فذهبت من باب العلم واشتريت أسطوانة الشيخ زكريا أحمد وقارنت بين الأثنين فلم أجد غير الافتراء من الأديب الشيخ يونس".
دعم محمد فاضل ما أبداه من ملاحظات، بعرض سابق خبراته أمام القراء، فقال: وبما أني من غواة الفن وأعزف على العود جيداً، وكنت من تلاميذ المرحوم محمود أفندي الجمركشي وتعلمت من المرحوم (السيد أفندي الصغير) فطبعا على شيء من الفن، والشيخ يونس وأنصاره لم يكونوا على شيء من فن الموسيقى مطلقا.
ويختتم رسالته قائلا: أقرر انتصاراً للحقيقة بأن ما يقوله - يونس القاضي- على زكريا أحمد من حيث سرقة الألحان فهو باطل ويشتم منه رائحة العداوة للشيخ زكريا أحمد، وأقول للشيخ يونس من باب الاقتراح أن يتعلم الموسيقى، ثم يكتب عن الموسيقيين، لأنه غلط غلطة فنية مدهشة حين مقارنته للقطعتين (مصطفاكي) و(تركي أفندم)، فـ لحن (مصطفاكي) نغمته نهاوند ولحن (تركي أفندم) نغمته حجاز كار كورد، والفرق بين الاثنين مثل الفرق بين الليل والنهار.
أقفلوا الباب..
وإزاء قوة ما ساقه فاضل شاهين من رأى وتحليل، كتب عبد المجيد حلمي تحت عنوان "حول سرقات زكريا.. أقفلوا الباب" ملخصاً المعركة وما وصلت إليه، وهو ما تصدى له محمد البحر في مقال له نشر بمناسبة ذكرى سيد درويش، في معرض احتجاجه على إشارة صاحب مجلة المسرح، نحو غلق باب النقاش حول تلك القضية قائلا: "عليك يا سيدي أحتج وبلسان الكثيرون أصرح لك بأنك لا تملك حق قفل باب المناقشة فيما يدور حول الشيخ زكريا أحمد وسرقاته العديدة، وأصرح لك أيضا أنك لا تملك أمر هذه المجلة ولا تملك نفسك، فأنت و(المسرح) ملك للشعب الشريف الذي أتشرف بأن أكون أحد أفراده"!
ووفق محمود، على القارئ ملاحظة مدى قوة خطاب محمد البحر ونصاعة بيانه، الأمر الذي يثير الشك في أن من تولى كتابة رسائل محمد البحر إلى «المسرح» كان كاتبا محترفاً وليس صبياً في الخامسة عشرة من عمره.
ما وراء المعركة..
بحسب حنفي محمود لم تشر أي من المقالات العديدة التي شارك بها البعض من الكتاب أو القراء في هذه المعركة إلى الأسباب الحقيقية لها، وقد انتقلت عدوى غموض أسبابها إلى كل ما كتب عنها بعد انتهائها، إن إعمال الفكر فيما شهدته تلك المعركة، إذا ما دعمته بعض المعلومات عن أشخاص المشاركين الأساسيين فيها، سوف يصل بالمرء إلى قناعة أن أسباب هذه المعركة تكمن في سببين لا ثالث لهما، وأول هذه الأسباب يمكن أن يعزى إلى حدوث بعض الضغائن الشخصية بين زكريا أحمد ويونس القاضي خلال مسيرتيهما في عالم الفن، فمن الثابت والمعروف أن الصلة بين زكريا ويونس بدأت منذ كان زكريا في التاسعة من عمره؛ وعندما بدأ نجم زكريا أحمد يلمع في عالم الغناء كانت كلمات يونس القاضي، هي الأجنحة التي حلقت باسم زكريا عاليا، ولكن زكريا أقلع عن الاستعانة بأزجال يونس القاضي بدءا من عام 1924م عندما بدأ في تلحين الروايات المسرحية، إن تحول زكريا عن الاستعانة بأغنيات يونس القاضي في هذه الفترة يعد سبياً كافياً لإشعال صدر يونس القاضي بنيران الغيرة والضيق، وذلك إذا ما أخذنا في الاعتبار ما حققه زكريا أحمد خلال تلك الفترة من نجاحات.
وأما ثاني أسباب هذه المعركة، فإنه يرتبط بالشيخ يونس القاضي في المقام الأول، إذ أثر عن يونس القاضي إتقانه الهجاء وشن الهجمات الصحفية، وأنه أصبح حديث الأوساط الثقافية والفنية بعدما بدأ بنشر باب أطلق عليه محكمة الأدب والفن راح يتصيد فيه الأخطاء النحوية لكبار الكتاب ومشاهير الفنانين ويحاكمهم عليها.
ولتعدد مواهب يونس القاضي وكثرة صلاته بالفنانين والأدباء، فإن وزارة الداخلية في حكومة أحمد زيور باشا - والتي كان يتولاها زيور باشا قامت بتعيين يونس القاضي في عام 1926م بمنصب "الرقيب على الفنون"، أو في وظيفة "مدير المطبوعات".
ولما كان زكريا أحمد قد لحن في أعقاب ثورة 1919م العديد من الأغنيات التي تضمنتها الروايات المسرحية، وهي أغنيات قدمت تصويراً دقيقا للأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مصر، سخر العديد منها تورية وإسقاطاً من ملك مصر الذي لقب في رواية "دولة الحظ" 1924م بجلالة الأمير باباظ الأول، فإن معركة كالتي شنها يونس القاضي على زكريا أحمد يمكن أن تفسر على أنها شنت لتأديب أكبر الملحنين بمصر.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام