مئوية سيد درويش : ألحان الطوائف.. كيف استعاد فنان الشعب بألحانه حياة الصناع والحرفيين؟ - بوابة الشروق
الأربعاء 8 يناير 2025 2:00 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مئوية سيد درويش : ألحان الطوائف.. كيف استعاد فنان الشعب بألحانه حياة الصناع والحرفيين؟

محمد نصر:
نشر في: الخميس 21 سبتمبر 2023 - 2:51 م | آخر تحديث: الخميس 21 سبتمبر 2023 - 2:51 م

كثيرة هي الألقاب التي لقب بها سيد درويش، كان على رأسها اللقب الأشهر "فنان الشعب"، وكثيرة هي أيضا الأوصاف التي وصفه بها الكتاب والنقاد بين سطور ما كتبوه عن موهبته الفذة التي جعلته يرتقي إلى مصاف أعلام الفن في العالم، وربما كان من أبدع ما وصف به سيد درويش كونه "ثمرة نبتت في الأرض وأنضجتها الشمس في زمانه ومكانه"، في دلالة على أن موهبته استمدت واستقت أصالتها ونزوعها نحو التحرر، من منابع جذوره وما عايشه من ظروف اجتماعية وسياسية أخذه في التحول نحو المجهول، لتساهم موهبته في انحراف نحو ثورة فنية، عبرت بصدق عن ثورة سياسية قامت على تلك الظروف.

ألحان الطوائف..

وقد كانت الألحان التي أنتجها سيد درويش تعبيرا عن حياة طوائف الصناع والحرفيين، من أبرز إنتاجاته التي حفرت في ذاكرة الشعب المصري، وفي حينه كان نظام طوائف الصناع والحرفيين لا يزال نابضا ببعض الحياة بالقاهرة والاسكندرية، وفق ما يرويه المؤرخ العمالي أمين عز الدين على صفحات مجلة الهلال سبتمبر 1969، رغم صدور شهادة وفاة هذا النظام رسميا أواخر القرن التاسع عشر، بصدور ديكريتو – قرار – خديوي 1890، والذي نسف حق تلك الطوائف في تنظيم ممارسة حرفهم، ليفتح باب العمل والإنتاج لكل مواطن سواء انتمى إلى طائفة صناعته أم خرج عنها.

ويقدم لنا عز الدين في مقاله لمحة عن تاريخ تلك الطوائف الحرفية، التي أحصاها على مبارك باشا في مؤلفه الضخم الخطط التوفيقية، ب 198 طائفة، يعمل بها أكثر من 60 ألف شخص، كان منها "الدقاقين والقزازين والشبشكية والمسلكاتية والغرابيلة والنشارين والقصاصين والسيوفية والمبلطين والمرخمين والترابة والقنواتية واللبانة والخيمية والخرازين والقفاصة والمدابغية والحرايرية والسروجية والقلافيطية والترشجية والآلاتية والسقايين"، فعبر قرون متواليه من الزمان كان هؤلاء الصناع والحرفيون المنتجين الحقيقيين للسلع والخدمات في المجتمع المصري، وقد ملكوا من الإبداع والفن ما جعلهم عماد نهضة شملت مختلف مناحي الحياة اليومية في مصر.

ووفقا لعز الدين فقد "بلغت طوائف الصناع الحرفيين في العصور الوسطى وحتى مشارف العصر الحديث في القرن الـ 18، مكانا راسخا في العلاقات الاجتماعية السائدة ولعبت دورا اقتصاديا بل وسياسيا نشيطا، وجانبا من المهام والمسئوليات التي يختص بها الحكام في الدولة الحديثة مثل جباية الضرائب وتحديد الأسعار وتولي القضاء في منازعات الحرفة وتوقيع العقوبات المدنية على أبناء الطائفة"، وذلك بفضل "نظام الطوائف والأصناف" الذي توارثوه وشبهه عز الدين بـأنه كان "تنظيما للإنتاج ... حفظ لهم وحدتهم وحدد لهم معالمهم في المجتمع ... وأيضا خلق فيهم احساسا عميقا بالانتماء والاخوة والتكافل".

لكن عوامل تاريخية متوالية بحسب عز الدين، بدءاً من بداية القرن الـ 19 شكلت ضربات متوالية وقاسية للطوائف الحرفية أثرت على الاذواق العامة في المعمار وفي الملبس والمأكل، ووضعت هذا النظام على طريق الانهيار، كان منها "النظام الصناعي الذي انشأه محمد علي ونظم القضاء الحديثة في عصر اسماعيل ثم دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلاد واستثمارها في المرافق الحديثة وبوادر الصناعة ثم الاحتلال البريطاني وغزو السوق المصري بالبضائع الأجنبية".

الكرومرية

وفي مقاله يسلط عز الدين الضوء على السعي الحثيث للورد كرومر في عهد الخديوي عباس إلى إقامة بناء اجتماعي هرمي لحكم البلاد يكون فيه الجهاز العسكري للاحتلال في قمته، وأن هذا النظام قد أخذ يُحدث تغييرا مطردا في أساليب الحياة وفى أذواق الناس، نتج عنه تغير المطالب اليومية للمستهلكين، وظهور "الحاجة إلى سلع وخدمات لم يكن الصناع الحرفيون قادرين على سدها".

ويورد عز الدين في مقاله وصف كرومر في أحد تقاريره السنوية لحركة التغير التي حدثت قائلا: "من يقارن الحالة الراهنة بالحالة التي كانت منذ خمس عشرة سنة فرقا شاسعا ومدهشا، فالشوارع التي كانت مكتظة بدكاكين أرباب الصناعات والحرف من غزالين ونساجين وحياكين وصباغين وخيامين وصانعو أحذية وصائغين وخودجية وسمكرية وصانعي قرب وغرابيل وسروج وأقفال ومفاتيح إلخ قد أصبحت الآن مزدحمة بما قام على أنقاض هذا المجال من القهاوي والحوانيت الخاصة بالبضائع الأوروبية".

تشبث وانزواء..

وفي مواجهة هذا التيار الجارف، وفقا لعز الدين فقد "تشبث الصناع الحرفيون بمهنتهم وتقاليدها ... وبمحلاتهم الضيقة المنزوية بينما راح الأجانب ينشئون الورش الحديثة والمحلات المتطورة وسط المدينة وعلى مقربة من المستهلكين الجدد ... وأصبحت القاهرة الإسكندرية مدينتين ينزوي فيهما الصناع الحرفيون، فاقدين أسواقهم ومستقبلهم وفاقدين حتى القدرة على ممارسة الحياة أمام حركة التاريخ وأمام منافسة القوى الأجنبية بسطوتها الاستعمارية واحتكاراتها وبضائعها وعمالها النهرة المهاجرين".

في عالم منهار

في قلب هذه المأساة، وقبل مرور عامين على صدور الديكريتو الخديوي الذي كان إعلانا بوفاة نظام الطوائف، ولد سيد درويش في 17 مارس 1892، وتربى في حي كوم الدكة الحي الشعبي الذي انزوت في داخله محلات الحرفيين بشويخهم وأسطواتهم وصبيانهم، لكن وبحسب عز الدين فلم يكن أهالي الحي حينذاك "مهددين فقط بانهيار حرفهم او تصفية طوائفهم، بل كانوا مهددين أيضا بالخطر الجديد الذي يطل عليهم من" طابية كوم الدكة" التي اتخذها الاحتلال البريطاني "قلعة" لعساكره"، ليشهد أهالي الحي ومعهم درويش على عبث هؤلاء العساكر واعتداءاتهم وشراستهم. لتترسب "في قلبه الصغير ومشاعره الرقيقة، ذكريات الصلف البريطاني وعبث عساكره".

وقد كان امتهان سيد درويش للعمل الحرفي "وسط الصنايعية" من أقوى المصادر برأي عز الدين التي ساعدت درويش على تنمية قدراته وتشكيل روحه وتحديد اتجاهاته في المستقبل.

مدينة وراء الخطوط

لقد كانت القاهرة في عام 1917، العام الذي انتقل فيه درويش إلى القاهرة، وفق ما يصف عز الدين في مقاله، مدينة وراء الخطوط بكل ما يحمله هذا الوضع المهين من ظواهر طارئة وغريبة، فبعد 3 سنوات من الحرب، كانت "الأحكام العرفية تأخذ بتلابيب أهلها وتهدد أمنهم وأرزاقهم، والجنود البريطانيون وجلب المستعمرات يجوسون شوارعها ولا يتورعون عن اهانه الناس". وفي الأحياء الشعبية حيث انزوى الصناع الحرفيون، وساد الكساد والبطالة والعيش على الكفاف، وزادت سطوة الشركات المحتكرة للمرافق العامة فلم يوقفها قانون على ما تفرضه من أسعار.

وبحسب عز الدين فرغم هذا الجو المفعم بالقهر والمظالم والتفرقة، إلا أن سيد درويش الفنان اندفع "فيما يشبه العاصفة بالإنتاج والتأليف والتلحين، مغرقا فرقة جورج أبيض، والريحاني والكسار ومنيرة المهدية وأولاد عكاشة ثم فرقته الخاصة بالمسرحيات الغنائية ومغرقا شركات الأسطوانات بمئات الأدوار والطقاطيق والأناشيد"، وانه وبنفس الجهد اندفع مؤيدا للثورة الوطنية وملحنا لأناشيدها الحارة ومشاركا في مظاهراتها ونضالها.

موقف اجتماعي متكامل..

ويري عز الدين أنه "بصرف النظر عن الثورة الفنية التي أحدثها سيد درويش في هذه الأعمال الخالدة والتي لا ينكرها حتى أقصى المنكرين لفضله، فإن هذه الأعمال جميعها كان يسري في لحمتها وسداها خيط أصيل يعبر عن موقف اجتماعي متكامل لا يمكن أن تخطئه العين".

ويفصل عز الدين هذا الموقف الاجتماعي بكونه يقوم على ثلاثة محاور أساسية، أولها "عطف منفعل وعميق على مصير الطوائف الحرفية المنهارة أو المقهورة"، مشيرا إلى أن أعمال سيد درويش تناولت بأشكال متباينة من التعبير الفني حياة العديد من طوائف الحرفيين. "وهي في كل هذا تنطلق من زاوية الاشفاق على هذه الطوائف ونعي مصيرها وإبراز نكبتها".

ويرصد عز الدين عدد من الطوائف التي غنى لها سيد درويش يذكر منها: " السقايين والشيالة والتحفجية والمراكبية والجزارين والحمارين والسياس والجرسونات والعربجية والبويجية". مشيرا إلى أن لحن "طلع النهار فتاح يا عليم ... والجيب ما فيهش ولا مليم"، هو لحن شامل ووصف عام قدمه درويش عن أحوال هذه الطوائف وما جرى لهم على أيدي العمال الأجانب.

أما المحور الثاني للموقف بحسب عز الدين فقد تمثل في الهجوم المرير ضد شركات الاحتكار الأجنبي في المرافق، وكان هجومه دائما ينطلق من رؤيته للنكبة التي جرتها هذه الشركات على حياة وأرزاق الطوائف الحرفية، ولم ينطلق من رؤية مجردة للاحتكار الأجنبي أو للرأسمالية المستغلة، فهذا بحسب عز الدين "موقف نظري لم ينشغل به سيد درويش أبدا ... ولهذا نجد الفنان يركز في هجومه على تلك الشركات التي أثرت أعمالها ونشاطاتها مباشرة في حياة الحرفيين فمن أجل السقايين هاجم شركات المياه، ومن أجل الحمارين والسياس والعربجية هاجم شركات الترام، ومن أجل كل المنتجين الحرفيين هاجم البضائع المستوردة".

وأما المحور الثالث، وهو بحسب عز الدين "يقوم على مناهضة الاحتلال والحكام الموالين له"، اتسمت فيه حركة الفنان "بقدر من الحذر في أسلوب تناوله للقضية، فهو هنا يتخفى في حذق وراء شخصيات وهمية من الأمراء والسناجق الأتراك والمماليك، ثم يملأ المسرحية بالألحان الحماسية والاناشيد الوطنية".

تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك