- 5 أحكام فى 3 سنوات بسطت رقابة القضاء على دعوة الناخبين وإعلان الطوارئ والاتفاقيات الدولية
- قرارات الحرب والأمن القومى وتعيين المحافظين آخر ما تبقى لـ«سيادة الرئيس»
- المحكمة لا تتقيد بالمبادئ السابقة.. وتؤكد: أحكام القضاء ليست جامدة وتتغير بتغير الموضوع والزمان والنصوص
- غياب التعريف الجامع المانع لـ«أعمال السيادة» يفتح بابا واسعا أمام اجتهاد المحاكم
احتل الخلاف القانونى حول «أعمال السيادة» بين محكمة القضاء الإدارى والمدعين فى قضية «اتفاقية تيران وصنافير» من جهة وبين هيئة قضايا الدولة، محامى الحكومة من جهة أخرى ــ قسما بارزا من حيثيات الحكم الصادر أمس الأول ببطلان التوقيع على الاتفاقية.
تمترس دفاع الدولة خلف نظرية أعمال السيادة التى نشأت فى كنف القضاء الفرنسى، والمستقرة على استبعاد جميع القرارات التى تتخذها السلطة التنفيذية باعتبارها سلطة حكم وليست سلطة إدارة من رقابة القضاء.
وفى المقابل، قالت المحكمة فى عبارات صريحة إن «أعمال السيادة ليست نظرية جامدة وإنما تتسم بالمرونة وتتناسب عكسيا مع الحرية والديمقراطية، فيتسع نطاقها فى النظم الديكتاتورية ويضيق كلما ارتقت الدولة فى مدارج الديمقراطية». وأن نصوص قانونى مجلس الدولة والسلطة القضائية لم تضع تعريفا جامعا مانعا لما سمى بأعمال السيادة، أو الضوابط والعناصر التى يستدل بها عليها، وأكدت أن القضاء وحده هو الذى يقرر فى كل حالة على حدة ما يدخل ضمن أعمال السيادة وما يخرج عنها.
والجديد فى هذه القضية أن القضاء الإدارى أخرج مسألة التوقيع على اتفاقية دولية مثل اتفاقية ترسيم الحدود من نطاق أعمال السيادة، بعدما ظلت الاتفاقيات الدولية لعهود طويلة مثالا كلاسيكيا لأعمال السيادة الخارجة عن اختصاص رقابة القضاء.
فقد تواترت على مدى العقود الخمسة الماضية أحكام عدم اختصاص القضاء الإدارى بأشكال قرارات سيادية بعينها، كإعلان حالة الطوارئ أو مدها، ودعوة الناخبين للاستفتاءات والانتخابات، وتعيين الوزراء والمحافظين، وتعيين الأعضاء المعينين فى البرلمان، وإعلان الحرب، وتعيين السفراء، وقطع العلاقات الدبلوماسية أو تخفيض التمثيل الدبلوماسى، وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات.
إلا أن محكمة القضاء الإدارى ــ وتحديدا الدائرة الأولى بالقاهرة ــ أصدرت منذ عام 2013 العديد من الأحكام التى شكلت ثورة على نظرية أعمال السيادة بتطبيقاتها التقليدية، وأدت إلى توسيع الرقابة القضائية على أعمال السلطة التنفيذية وتحديدا رئيس الجمهورية.
محطات مهمة لتضييق أعمال السيادة
1ــ الحكم الأول كان وقف قرار الرئيس الأسبق محمد مرسى بدعوة الناخبين للاقتراع فى الانتخابات البرلمانية فى 7 مارس 2013، والذى كان أول حكم بسط ولاية القضاء على أمر طالما صدرت الأحكام باعتباره من أعمال السيادة يتعلق بالعلاقة المباشرة بين رئيس الدولة وجموع الناخبين.
وفى ذلك الحكم قالت المحكمة برئاسة المستشار عبدالمجيد المقنن وعضوية المستشارين سامى درويش وجابر حجى إن «المشرع لم يصنع تعريفا محددا لأعمال السيادة، وإنما يستقل القضاء بتحديد ما يندرج ضمن هذه الأعمال» واستندت إلى أن دستور 2012 استحدث تعديلا فى طبيعة نظام الحكم فى مصر، فأصبح برلمانيا رئاسيا، ويكون الأصل طبقا للمادة 141 منه أن يتولى الرئيس كل سلطاته بواسطة رئيس الوزراء ونوابه والوزراء عدا اختصاصات معينة تتصل بالدفاع والأمن القومى والسياسة الخارجية، وبالتالى فقد انحسرت أعمال السيادة عن قرار دعوة الناخبين للاقتراع، بأمر الدستور والقضاء.
وأصبح هذا الحكم نهائيا وباتا وبمثابة مبدأ بعدما أيدته المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار يحيى دكرورى آنذاك.
2ــ الحكم الثانى صدر فى 28 مايو 2013 حيث قضت المحكمة بالهيئة ذاتها بعدم قبول بعض الدعاوى المطالبة ببطلان الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس الأسبق محمد مرسى فى 22 نوفمبر 2012 لزوال المصلحة بموجب دستور 2012، لكنها أكدت فى حيثياتها بوضوح عدم اعتبار الإعلانات الدستورية التى يصدرها الرئيس فى غياب البرلمان من أعمال السيادة، على عكس الأعراف السائدة سابقا.
3ــ الحكم الثالث صدر فى 12 نوفمبر 2014 بإخضاع إعلان ومد حالة الطوارئ لرقابة القضاء الإدارى، ورأت المحكمة برئاسة المستشار محمد قشطة وعضوية المستشارين عبدالمجيد المقنن وسامى درويش أن التطورات الدستورية التى تضمنتها الوثائق الدستورية المتعاقبة منذ إعلان 30 مارس مرورا بدستور 2012 وانتهاء بإعلان 8 يوليو تكشف عن توجه المشرع الدستورى إلى تقييد سلطة رئيس الجمهورية فى إعلان ومد حالة الطوارئ بوضع مزيد من الشروط والضوابط والقيود الخاصة بالمدة والأسباب.
وهدمت المحكمة عرفا متوارثا آخر بأن سلطة الرئيس فى إعلان حالة الطوارئ ومدها مطلقة لأنها عمل سيادى، فقالت: «لم تعد سلطة مطلقة وإنما هى سلطة مقيدة، حدد المشرع الدستورى والقانون تخومها وضبط حدودها ومداها وحد من غلوائها» بل إن القرار «إدارى ولا يعد من أعمال السيادة، والمحكمة فى هذا تتبع الحق وفقا لما اطمأن إليه ضميرها، وإن خالفت ما سبق من أحكام».
4ــ الحكم الرابع صدر فى 27 يوليو 2015 بإلزام وزارة الخارجية باتخاذ الإجراءات اللازمة فقا لأحكام القانون الدولى لإلزام بريطانيا بتحمل مسئوليتها القانونية للكشف عن الألغام والذخائر والمتفجرات التى زرعتها أو تركتها فى الأراضى المصرية أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن تتولى مهمة رفعها وتطهير مصر منها، وكذلك إلزامها بأداء التعويضات اللازمة لمصر عن ذلك، وأداء تعويضات أخرى عن الأضرار التى أصابت المواطنين المصريين وأموالهم بسبب هذه الألغام.
وهدمت المحكمة برئاسة المستشار يحيى دكرورى وعضوية المستشارين عبدالمجيد المقنن ومحمد القرشى عرفا متوارثا آخر هو اعتبار جميع علاقات مصر مع غيرها من الدول ضمن أعمال السيادة التى يمتنع على القضاء رقابة مشروعيتها.
وقالت إن أعمال السيادة هى التى تقتصر على «التصرفات ذات الطابع السياسى المجرد التى تخضع للتقدير والملاءمة من الحاكم عند التصرف كسلطة حكم وليس كسلطة إدارة، مثل إقامة العلاقات الدبلوماسية وقطعها وتقليل مستوى التمثيل الدبلوماسى وإعلان الحرب وإبرام الاتفاقيات الدولية بما لا يخالف الدستور».
واستطردت: «أما إذا كان العمل المتصل بالعلاقة الدولية يتعلق بحقوق المواطنين أو تنفيذ اتفاقيات دولية، فهو من أعمال الإدارة».
المحطة الخامسة:
يأتى حكم أمس الأول بشأن تيران وصنافير كخامس أبرز الأحكام الصادرة فى الآونة الأخيرة لتحجيم نظرية أعمال السيادة، وفيه ردت المحكمة برئاسة المستشار يحيى دكرورى وعضوية المستشارين عبدالمجيد المقنن وسامى درويش على دفع عدم الاختصاص فى عدة نقاط مهمة نجملها فى الآتى:
ــ التوقيع على اتفاقية من شأنها التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة يعتبر عملا إداريا يختص القضاء بنظره، لأن الفقرة الأخيرة من المادة 151 من الدستور حظرت على السلطة التنفيذية ذلك، ولأن المادة 97 من الدستور تحظر تحصين أى عمل أو قرار إدارى.
ــ توقيع الاتفاقية والتنازل عن الجزيرتين عمل قانونى إدارى تنبسط إليه ولاية محاكم مجلس الدولة، وتقدير مشروعيته يدخل فى ولايتها طبقا للمادة 190 من الدستور والبند 14 من المادة 10 من قانون مجلس الدولة.
ــ لا محل لاستناد هيئة قضايا الدولة (محامى الحكومة) من سابقة قضاء المحكمة بعدم اختصاصها بنظر دعوى ضد اتفاقية السلام مع إسرائيل، واتفاقية تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص، وذلك لأن أحكام القضاء ليست جامدة وتتغير بتغير الموضوع والزمان والقانون الحاكم للنزاع، الاتفاقية محل هذه الدعوى تغاير فى موضوعها الاتفاقيتين المشار إليهما، اللذين لم يثبت انطوائهما عن أى جزء من أراضى الدولة».
ــ الدستور الحالى استحدث حكما جديدا حظر بموجبه حظرا مطلقا التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة بحكم خاص.
ماذا يتبقى من أعمال السيادة؟
من واقع المحطات السابقة، يتضح أن القضاء الإدارى ــ وبصفة خاصة الدائرة الأولى بالقاهرة فى آخر 3 سنوات ــ يتطور فى تعاطيه مع نظرية أعمال السيادة، فلم تقيده المبادئ والأعراف السابقة، وكذلك كان سباقا للاجتهاد فى تفسير نصوص الدستور الجديدة لصالح توسيع دائرة الرقابة القضائية، ويظهر ذلك فى وقائع دعوة الناخبين للاقتراع، والطوارئ، والاتفاقيات الدولية.
وباستمرار القضاء الإدارى فى إصدار هذه الأحكام، لم يبق داخل دائرة أعمال السيادة إلا قرارات الحرب وما يختص بأعمال الأمن القومى وتعيين الوزراء والمحافظين فقط، وهى أمور لم تتغير السوابق القضائية بشأنها حتى الآن.
ويختلف المراقبون المتخصصون فى تقييم هذه الظاهرة، فمنهم من يرى هذه الأحكام اجتهادات ثورية وصائبة، مواكبة لتغييرات دستورية تحول مصر إلى دولة أكثر ديمقراطية تتعدد فيها مستويات المشاركة فى اتخاذ القرار السياسى، وتضمن استقلال القضاء كسلطة فاعلة، وتحظر تحصين أى قرار إدارى.
ومنهم من يرى أن القضاء الإدارى يقحم نفسه فى المسائل السياسية وقد ينعكس بالسلب على أداء المحاكم إزاء التطورات السياسية والمجتمعية، وأن السلطة التشريعية هى التى يجب أن تبسط رقابتها على أعمال السلطة التنفيذية المتعلقة بالحكم، لأن المسئول الإدارى هو الذى يساءل أمام البرلمان على مثل هذه القرارات وليس القاضى.