سناء البيسي تكتب: ما أحلى العودة إليه - بوابة الشروق
الأربعاء 18 سبتمبر 2024 2:43 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سناء البيسي تكتب: ما أحلى العودة إليه

سناء البيسي
سناء البيسي

نشر في: الجمعة 23 أغسطس 2024 - 5:38 م | آخر تحديث: الجمعة 23 أغسطس 2024 - 5:38 م

العودة إليه. ما أحلى العودة إليه. عالم أحلام نجيب محفوظ. «أحلام فترة النقاهة» التي انقطعت عني إشراقته لأكثر من تسع سنوات، يعود لي ثانية من جديد ثريًّا وهاجًا عفيًّا صوفيًّا سياسيًّا اجتماعيًّا موسيقيًّا. يعود لناظري ليخطف بصري من جديد. يعود ليشغل ذهني ويحرك مشاعري ويُحيي ذكرياتي ويؤجج أشجاني. يعود كوعد ومكتوب لأرض ميلاده ونشأته ومرتعه وصباه وبطولاته ومعجبيه. يعود كقدر مقدر ووصل للأرحام واستكمال للمسيرة عندما شعر صاحبه بعد حادث الاعتداء عليه بما يدفعه للكتابة وقد امتلأ بالشجن والحنين والرغبة في العودة إلى الماضي وربطه بالحاضر، فخرج بأحلامه إلى النور كل منها في بضعة سطور. تلقيتها، وهدهدتها، وبَجَّلتها وأوسعت لها مكانتها الجديرة بها في الصدارة، وجئت لها بأجمل اللوحات، وأخليت من أجلها الصفحات، وكتبت لها مقدمة في كتاب تشرح أحلامًا أسقط فيها العبقري الحائط الرابع لتغدو بشخوصها وأماكنها وأحداثها حلم الماضي والحاضر والغد في بعث جديد له دلالاته وحكمته. أحلام هي دفقة شفافية وشفاء للنفس.. الاختزال الدقيق الرفيق الذي ينزع الحراشيف ليُبقي على الجوهر متلألئًا ألقًا، أحلام يمشي على رءوسها لتصبح لها أقدام، أحلام يتنقل فيها إلى الضفة الأخرى للأحلام، أحلام هي الزهد في الدسم الزائل للوصول للنخاع، أحلام عبرت ألسنة رماح التكرار، وغابات أشواك الملل، وصحاري التقعر، وعفاريت المط والتطويل، وبحار غُربة التقليد والاقتباس. محفوظ، أحلامه صرح صنعه لنفسه لم يطرقه غيره، ولغة أجروميتها مِلك يمينه وحده، ووصف لم يصفه أحد سواه، وجملة حدودها خريطته بهضابها وسهولها وسيولها وبردها وقيظها ومطرها وزلازلها.. أحلام كلماتها حلقات في سلسلة مفاتيحه، وعالمها وحده ساكنه ومالكه ونجمه وقمره ومسرحه وملعبه وحارسه. أحلامه لا تنتمي لابن سيرين لتعلِّق عليها «خير اللهم اجعله خيرًا». أحلامه لا تصلح لشهر زاد بين يدَي شهريار تجول فيها وتصول وتتوقف عند صياح الديك وتعود في الليلة الجديدة لتكمل حكاية الشاطر حسن والأميرة ذات الهِمة. لا، أحلام صاحبنا صياغة من نوع خاص، مختومة بختم خاص، أحلام وليست أضغاث أحلام، أحلام برؤية واعية وكاملة الإدراك، أحلام كتبها تحت لافتة «النقاهة» لتظل على المدى أحلامًا تتوارى تندس تزوغ تحت تلك اللافتة، الحجة، أو العذر، أو الهروب من التصنيف والفهرسة والجهبذة والنقد، ففترة النقاهة في مظهرها تعني أن صاحبها لم يتماثل للشفاء الكامل بعد، أي أنه حتى أوان كتابتها ليس في حكم المؤهل السوي المكتمل الصحة والأهلية للوقوف أمام القضاء ومنصّات الحساب، أي أن عدسة الأمور بالنسبة إليه ليست في وضعية التطابق الأمثل كي نقضي بالإدانة أو البراءة. أحلام فترة النقاهة، إنه الخلق الأدبي في أزهى أطوار حداثته المتواري خلف لافتة الأحلام بحجة أنها غير واقعية، بل حدثت في المنام وأن فترة حدوثها قد لازمت أوان النقاهة التي تستبعد الخروج بصاحبها لساحة النزال، فهو لم يزل كما يقول العنوان واهنًا واهيًا هشًّا في غير لياقته التامة حتى لا نأخذ عليه قولًا، أو نُعنفه أو نقلصه، أو نطالبه بالاعتذار.

عاشت معي أحلامه سنين من بدايتها حتى الحلم رقم ١٤٦ بخط يده، قبل أن تُرهق اليد تمامًا -من أثر إصابته بالاعتداء الآثم - فيُمليها على سكرتيره، وإن كنت بعد هذا الرقم قد اقترحت عليه أن يكتب كلمتين فقط بأصابعه مع بداية كل حلم حتى يحمل العمل الأدبي نوعًا من الحميمية؛ فقبل الأستاذ الاقتراح ومكث الغيث منهمرًا يروي مجلة «نصف الدنيا» بأحلام فترة النقاهة التي يرسلها لنا في توقيت محدد كالساعة على يد سكرتيره الحاج صبري في مظروف حكومي كبير مذيلٍ بتحياته وإمضائه العالمي. وعندما أتى الإعصار ليقصيني عنوة عن أحلامه وعنه وعن موقعي في تلقي زاده المتفرد للنشر المدوي، اختفى سيدي هو الآخر. توارى كاتبي. تجمدت مسيرة الأحلام والذهاب والإياب بين الحلم والواقع حتى خُيِّل للجميع أنه قد أغلق باب الحلم وعاش صخر الواقع وجحيمه وجحوده وقفره وتصحره حتى رحيله. ومكثت طويلًا لا أصدق أن يجف النبع الميمون المتفجر فيضًا وهبة وموهبة ربانية. مكثت طويلًا لا أتقبل فكرة أن يُغلق نجيب محفوظ بيده بابًا فلسفيًّا فتحه أمام الأجيال القادمة لمعاودة النظر في قضية الأحلام ونقلها من حيز الخرافة أو التقديس عند بعضهم، إلى الخيال والفن والمتعة والمقارنة وإحياء الذكريات وقراءة فلسفة التاريخ في كلمات معدودات. مكثت طويلًا لا يعتريني الشك في أن نهر العطاء لم يزل هناك منهمرًا يوسِّع مجراه ولو في باطن الصخر وطيّات الخفاء. مكثت طويلًا مؤمِّنة على ما قاله الحاج صبري كاتب أحلامه من أن الأستاذ ظل لقرب رحيله يملي عليه عشرات.. مئات الأحلام بعدما ينشغل بصياغة كل منها لفترة ثم يحفظه عن ظهر قلب. فأين تلك الأحلام وقد أحصاها صبري بالمئات؟

وفجأة يظهر الكنز. تتحرر الخبيئة من قيدها. ينقشع الغَمام. يخرج المارد من القمقم. تنزاح الأستار عما خبا عنه ضوء النهار لسنوات طوال. يعتذر جوهر الأدب عن تغيبه. يحتل اليقين موقع الارتياب. تكشف المصادفة عن المستخبي. تسع سنوات تأتي بعدها كريمتا صاحب نوبل «فاطمة وأم كلثوم» لتُعيدا ترتيب أوراق الأب الكريم المكرَّم بعد وفاة الأم الفاضلة فتكتشفا الثروة الأدبية التي لا تقدر بمال. أحلامًا جديدة بالمئات لم تنشر من قبل، سرعان ما دفعتا بها إلى «دار الشروق» لنشرها في كتاب جديد يتضمن الجزء الثاني من «أحلام فترة النقاهة» لأشرُف اليوم بتقديمها، كما شُرِّفت من قبل بتقديم الجزء الأول منها عام ٢٠٠٥، وأظل أحسد نفسي لموقعي المتفرد من أحلامه الذي كان يتمناه كل الملتصقين بنجيب محفوظ وهو على قيد الحياة وحتى بعد رحيله. أن أكون أولى القارئات. أن أكون أولى المفسِّرات وليأتِ بعدي الآخرون؛ فقد حمّلني الأستاذ بمسئولية أحلامه منذ البداية. بحكم شدة الاقتراب. بحكم الإعجاب الشديد. بحكم المسار الضمني الزمني الطويل. بحكم فهمي وإخلاصي له ووثوقه الكريم بي.

وها هي أحلامه الجديدة التي رقدت طويلًا في قاع الصندوق تخرج للنور مُعبرة عن أن «محفوظ» مكث لآخر أيامه ينتج ويبدع ويزرع الفسيلة، ويبلغ القمة في بلاغة الاختزال واتساع التفاصيل. أحلام خلاصتها تمزج الخيال بالواقع، والفلسفة بالرؤى الصوفية، والسياسة بالزعامة، والحب بالحرمان، والشباب بالشيخوخة، واللقاء بالفناء، ولقمة العيش بالانحناء، ودموع الفرح بشهقات الندم، ولعنة العزوبية بمأساة الارتباط، والصفاء بعد العراك، ولهو العيال ومتاهة الكبار، وادعاء الكرم، وإحياء الموتى الذي يسعد البعض ويُشقي البعض، وعطر الأزمنة، وسهر الليالي، واستقلال القضاء، ومحاكمة الوزراء، والنهوض بالصعيد الذي طال إهماله، وكلّ في طريق، والعبد يُضرَب بالعصا والحر تكفيه الإشارة، والنصيحة في غير موقعها، والزمان لا يتغير ولكن الإنسان لا يثبت على حال، والحب موسيقى الوجود، ولا دوام إلا لله، والاستعداد قبل الإقدام، وبين الأشواك يتلاقى البؤساء، ومفهوم الثقافة طاقة استيعاب، ويا أهل مصر هنيئًا فلكم الحسين، والمدينة تعني الصراع، واملأ الفم تستحي العين، والعلم والشعوذة في جانب والواقع شيء آخر، والإخلاص للناس والمكان، وأولاد حارتنا، ويا قليل المال رفقتك محال في زمن الأنذال، والوحدة وسط الإخوة، ورائحة الفساد، وشرفة مطلة على البحر، والتردد يوصل للخسارة، والسلام العالمي مع الإسلام، والجدل العقيم والتعليم العقيم، ومراقبة النفس وسط الضجيج، وإن لم تستحِ فافعلْ ما شئت، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وضياع صوت المسحراتي وسط الضجيج، وتكون في بقك وتقسم لأخيك، والنوم في العسل واليقظة مع الألم، والصدق في القول والإخلاص في العمل وأن تقوم المحبة بين الناس مكان القانون، ومشروب العاشقين، والبدء مع النظافة، وقليل البخت، وزعامة سعد زغلول، ووجه الحبيبة، والاكتئاب عدوى، ورفقة الدموع، وطلع البدر علينا. عادت لي أحلامه من جديد لتصل حبل الوداد، وخيط الذكريات، ونبض الأيام، ونشاط الدماغ، وسلاسة السرد، وسلامة الفهم، وبيت العز، وجمع الأصدقاء، والهم المصري الشامل، والكيان المصري، والهوية المصرية، والحقيقة المصرية، والمزاج المصري، والروح المصرية، والمسألة المصرية، والطريق إلى مصر الحقيقية. وعاد نجيب في بعض أحلامه تلك إلى الرمز، وعندما يرمز نجيب لا يجوز لنا أن نفتش عن قلبه أو أن نتهمه بما لم يقل أو يصرح، ولنتذكر دائمًا أن الفن الرمزي هو كما يُقال - مع الفارق - عن ماء زمزم «هو لما شُرب له» أي على حساب نيّة الشارب.

أحلام تتشعب مساراتها التي تبدو بسيطة في أحداثها، قريبة فيما تقدمه، سلسة فيما تعرضه، ولكن ما إن يطيل القارئ الفكر فيما تعنيه الكلمات، وفيما يعبر عنه الأشخاص، وما تقود إليه الأحداث، وفيما يبدأ به الحلم أو ينتهي إليه، حتى يدرك أنه بإزاء عالم آخر، رحب فسيح، وأن ما يقرأ من وقائع أو أحداث فما الكثير منه إلا رمز لما وراءه من أفكار ورؤى وفلسفة، وإن كان هناك من يحمّلُ بعض أحلامه فوق ما لا تحتمل، فقد يكون هذا البعض مجرد حلم يقظة بََرَقَ للحظة في عفوية بريئة وانطفأ في لحظة، وما تدوينه إلا للذكرى. وإذا ما كان لكل بناء دعائمه، ولكل موضوع عناصره، ولكل طريق محطاته، ولكل مسرح نجومه وأبطاله، فأهم أبطال ومفردات ونجوم ومحطات أحلام فترة النقاهة تلقاها تدور في غالبيتها حول: الأم، والعائلة، والإخوة، وأحداث الطفولة، وحي الجمالية، والحب وحبيبته «ب»، وبيت العباسية، وسيدنا الحسين، والصوفية، وسعد زغلول، والنحاس، والإسكندرية، والبحر، والسياسة، وعبد الناصر، والجيش، والحرافيش، والفيشاوي، وكرة القدم، والأغاني والحِكم والأقوال المأثورة، وعبد الوهاب وأم كلثوم وزكريا أحمد، وثورة يوليو، وقناة السويس، والنيل، والفساد والاكتئاب والتطرف، وليلة القدر، والمناصب، والفتنة الطائفية. و...وعشرات المحطات التي يتوقف عندها نجيب محفوظ ليروي حلمه عنها وفيها ومنها وإليها.

بطلة الأحلام بلا منازع هي «الست أم إبراهيم» أو «فاطمة»، أمه المتدينة التي تزور سيدنا الحسين يوميًّا والتي استوحى منها الابن ٢٢ حلمًا تعد الأكبر عددًا في مجموعته التي أزيح عنها الستار اليوم، وكيف لا وهو القائل عنها: «الإنسان طول فترة حياته يعتمد على الأم في أشياء كثيرة قد لا تكون بالضرورة أشياء مادية، وإنما يعتمد عليها عاطفيًّا، لكن برحيلها يفقد سندًا عظيمًا في الحياة، ويدرك أنه قد أصبح وحيدًا في العالم، وقد يكون له أصدقاء، وقد يكون له أبناء وأحفاد، ولكنه يعلم أن مكان الأم قد أصبح شاغرًا إلى الأبد. رحيل والدتي أثَّرَ فيَّ كثيرًا رغم أنني كنت قد تخطيت الخمسين وكانت هي قد تخطت الثمانين». أمه التي كانت لا تقرأ ولا تكتب لكنها كانت بالنسبة إليه مخزنا للثقافة الشعبية، وكان لغرامها بالآثار القديمة، واصطحابها له في زياراتها لأبي الهول والأنتكخانة وكنيسة ماري جرجس ما حفّز قلمه ليكتب فيما بعد روايات عديدة منها «كفاح طيبة» و«رادوبيس». وربما كان الحلم رقم «٤٧٢» أروع ما كتبه نجيب في أواصر علاقته بأمه التي لم يُبلغها حتى وفاتها بنبأ زواجه من السيدة عطية الله حتى لا يكدر صفوها، ويتجنب ثورتها، بعد رفضه الزواج من قريبتها الثرية لعدم التكافؤ من الناحية المادية، خاصة عندما علم أن أهل الفتاة سيتكفلون بكل تكاليف الزواج من مهر وشبكة وأثاث! كتب نجيب عن الأم التي لعبت معه وحلقت معه ورتلت معه القرآن ترتيلًا: «رأيتني صبيًّا مع أمي وهي في فناء البيت تعد الطيارة الورقية للطيران وأجلس على قاعدتها المزخرفة وتمضي هي في حركتها وهي ترتفع رويدًا رويدًا حتى تبلغ الأفق؛ فيتاح لي أن أرى الحي من فوق مثل الأسطح وما فيها من دجاج وأرانب ورءوس الأشجار بثمار «دقن الباشا» وأعالي المآذن، وتتلو أمي الآية الكريمة: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، فأرد وراءها: "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". ويأخذ «الحب» بعواطفه الجيّاشة من دلال ووصال وغيرة وهجر وبعاد وخصام ما يملأ جنبات ١٨ حلمًا، بينما الحبيبة التي يرمز لها بحرف «ب» تتسلل وحدها لتجلس على عرش ١٤ حلمًا وإن رافقتها الأخريات كوصيفات أو زميلات دراسة ومهنة، وفي غالبية أحلام عشقه لـ«ب» تقبل عليه بكامل حنينها وأشواقها ورغبتها في الارتباط به، لكنه يفقدها بتصرفاته اللاواعية، أو بتدخل الأقدار؛ ليقعد بعدها ملومًا محسورًا عازبًا وحيدًا مكتئبًا.ومثالًا لسوء تقديره لأمور الحب الحلم رقم «٤٢٨» الذي جاء فيه: «رأيتني أجد المرحومة «ب» تحت شجرة جميز فقلت لها إني كثيرًا ما أراها في أحلام اليقظة والنوم، فماذا فرَّق بيننا؟ فقالت لي: تذكر ما حدث في شارع الكورنيش فقد تبعتني خطوة بخطوة حتى تمنيت أن توجه لي كلمة فأستجيب لك فورًا، ولما طال انتظاري قررت أن أتغلب على خجلي وأنظر خلفي نحوك، ولكنك أرخيت جفنيك فتولاني اليأس من ناحيتك، فقلت: ياللخسارة، فإن السعادة سعت إليَّ حتى كانت مني على بُعد قيراط فماذا أعماني عنها؟». ويظل بطلنا محبذًا حياة العازب المستمتع بحريته حتى إنه عندما تزوره العروس في الحلم يخلع عليها ثوب مرض «الصرع» لينفض مولد الزواج، ويتجلى ذلك في حلمه رقم «٤٦١» عندما يقول: «رأيتني في بهو استقبال يجمع بين أهلي وأهل خطيبتي وهذا المأذون يعد دفتره ليعقد قراني، وإذا بخطيبتي تندّ عنها صرخة وتقع على الأرض متخشبة الجسد مرتعشة الأطراف غائرة العينين، والرغوة تسيل من فمها، فهرع إليها أهلها وحملوها وذهبوا بها مخلِّفين وراءهم حسرة خانقة لا شفاء منها».

وفي الكشف الأدبي الجديد هناك ثمانية أحلام لنجيب محفوظ تدور وحدها حول سعد زغلول وحبه الشديد له، وتشبعه بأفكاره ورؤيته له زعيمًا بمعنى الكلمة يمتلك شخصية متعددة الجوانب؛ فهو مثقف وأديب ومحامٍ كبير وقانوني وسياسي وخبير وصاحب عقلية جبارة، ولا يوجد زعيم في تاريخ مصر أحبه الناس حبًّا صادقًا إلى درجة العبادة، وينزلونه منزلة التقديس والإجلال، وعندما يقارنه بمصطفى النحاس يجد النحاس أقل في مجموع مواهبه من سعد، ولكنه كان غاية في النقاء والصفاء والوطنية والطيبة ونظافة اليد، وهو في إيمانه بمبادئ سعد زغلول إيمان السالكين في الطرق الصوفية بشيوخهم، ورغم ولاء النحاس الشديد لسعد فقد كان - في نظر نجيب محفوظ - أصلب منه وأشجع وأكثر جرأة عندما يتعلق الأمر بالوطنية. وربما يلمس الحلم «٢٩٨» حقيقة المشاعر التي حملها نجيب محفوظ لسعد زغلول عندما يحلم فيه وعنه فيقول: «رأيتني أسير في الظلام وشبح يتحرك هنا وآخر هناك فامتلأتُ رعبًا ولجأتُ إلى تمثال سعد زغلول، فوثب الزعيم إلى الأرض وأيقظ الأسد الذي راح يزأر فإذا بالأشباح تختفي وإذا بالطمأنينة ترجع إلى صدري، فشكرت الزعيم الجليل وعبرت الجسر في سلام». ولم يدخل نجيب محفوظ معتقلات عبد الناصر ولا السادات رغم الانتقادات الصريحة التي كان يوجهها عن طريق رواياته وقصصه لسلبيات موجودة في المجتمع في عهدهما محاولًا تعريتها ولفت الأنظار إليها، ولكن السلطة كانت واثقة من حُسن نواياه في كتاباته، وكان ناصر نفسه مدركًا لهذه الحقيقة بدليل تدخله لصالح محفوظ بعد نشر روايته «ثرثرة فوق النيل» ولم يترك الأمر لانفعال المشير عبد الحكيم عامر. ويتذكر محفوظ المرة الوحيدة التي التقى فيها بعبد الناصر وكلَّمه وجهًا لوجه عندما زار ناصر مبنى «الأهرام» الجديد ورافقه الأستاذ هيكل إلى حجرة أدباء الأهرام، وعندما جاء دوره في المصافحة قال له ناصر مبتسمًا: «يا نجيب بقى لنا زمان ماقريناش لك حاجة»، وردَّ عليه الأستاذ هيكل: «ستنشر له «الأهرام» قصة غدًا. ولكنها من النوع اللي يودي في داهية»، وعقَّب عبد الناصر على الجملة الأخيرة موجهًا حديثه إلى الأستاذ هيكل: «يوديك انت». ومن هنا؛ ظل لدى محفوظ شعور بالاطمئنان والثقة، وبأنه لن يتعرض لأي نوع من الغدر طالما هناك عبد الناصر. وكان في جملة آرائه عنه يرى له أخطاء لا تغتفر؛ ومنها إخفاؤه المعلومات عن الشعب لدرجة أنه لم يعرف شيئًا عن مرضه إلا بعد وفاته ليفاجأ بأنه كان مصابًا بمرض خطير في القلب، وأنه كان ممنوعًا من العمل لفترة غير قصيرة، وأن مصر تحكمها «لجنة»، وأن الروس يعلمون بحقيقة مرضه حين كانوا يعالجونه، بينما شعبه كان آخر من يعلم. ويعتقد محفوظ أيضًا أن الأمريكان كانوا يعرفون بمرض عبد الناصر ويعدون العدّة لخلافته. ونزلت وفاة ناصر على نجيب كالصاعقة ليودعه بمرثية أدبية بليغة على هيئة حوار جاء في بعضها:

- حياك الله يا أكرم زاهد.

- حياكم الله وهداكم.

- إني أحنى رأسي حبًّا وإجلالًا.

- تحية متقبلة، ولكن لا تنسَ ما سبق من قولي: «ارفع رأسك يا أخي».

- سيكون أحب الطرق إلى نفسي، الطريق إلى مسجدك.

- طريق الحق هو الطريق إلى العلم والاشتراكية.

- نستودعك الله يا أكرم من ذهب.

- كلنا ماضون، ومصر هي الباقية.

ويزور جمال عبد الناصر في «أحلام فترة النقاهة» صاحبها ليقول في حلمه رقم «٢٠٩»: «وجدتني مع الرئيس عبد الناصر في حديقة صغيرة وهو يقول: لعلك تتساءل لماذا قلَّت مقابلاتنا، فأجبته بالإيجاب. فقال: كلما شاورتك في أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كليًّا أو جزئيًّا، فخفت أن تتأثر صداقتي لك بهذا الموقف. فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتي لك مهما اختلفنا».

ويظل هاجس الهجوم على روايته «أولاد حارتنا» يؤرقه في اليقظة والحلم وأضغاث الأحلام بعدما أجريت محاكمات عديدة للرواية ومؤلفها؛ بعضها جرى في العلن، وبعضها في الظلام، كما صدر أكثر من حكم بالإدانة، بل بالتكفير في بعض الأحيان، لتظل معه الرواية مطارَدة وممنوعًا نشرها، دون أن يكون معلومًا بيقين الجهة التي أصدرت قرار المنع. وكما كان قرار المنع مجهول المصدر، فقد أتيح للرواية الخروج إلى النور وأن يتداولها النقاد بالنقد في حرية وصراحة تامتين! ومن هنا؛ منحها كاتبها في حلمه رقم «٣٩٥» حق التكريم بقوله: «وجدتني في حفل لتكريم رموز الثقافة والعلم، ووقف الرئيس وتحدث عن «أولاد حارتنا» فنفى عنها أي شبهة إلحاد، ونوّه عما فيها من تسامح واستنارة».

ويتذكر نجيب محفوظ أن الفنان أحمد مظهر كان صاحب تسمية شلة الأصدقاء بـ«الحرافيش» والتي كان من أبرز أعضائها المستديمين الكاتب الساخر محمد عفيفي، والمخرج توفيق صالح، والكاتب عادل كامل، وصلاح چاهين الذي انضم ومعه مصطفى محمود. وعند وفاة چاهين المأساوية قرر محفوظ أن يكتب كل ما يعرفه عنه في عمل روائي، وكان يعرف الكثير، ولكنه توقف عن قراره عندما استشعر ما قد يسببه من مشكلات كثيرة خاصة أن الرواية إذا ما كتبها فسوف تتضمن شخصيات معاصرة، ووقائع وأحداثًا ليس له الحق في سردها، وتوصل في النهاية إلى كتابة رواية عن شخصية چاهين بطريقة لا يستدلُّ منها القارئ عليه فجاءت رواية «قشتمر»، ولكن الابن بهاء چاهين تعرف فورا على أبيه فيها. وإذا لم يكن نجيب محفوظ قد كتب صراحة وبوضوح عن أحزان واكتئاب چاهين، فالقارئ لا بد أن يتعرف عليه من خلال كلمات معدودات في سطور الحلم رقم «٣٨٧» والتي سارت على دربه من خلال أحداثه الفنانة سعاد حسني التي نسج لها چاهين شخصية «خلِّي بالك من زوزو» المرحة، ولكنهما معًا سارا للنهاية المأساوية ليتركا فراغًا لا يستطيع أحد أن يشغله، وجاء الحلم يذكرهما بحروف أسمائهما الأولى: «وجدتني مع بعض الحرافيش في مسكن المرحوم الشاعر «ص» ومعه المرحومة «س»؛ فتصافحنا بحرارة وسألته: هل أنت تؤلف لها دراما شعرية؟ فقال: إن الذي يجمعني بها الآن الانتحار الذي ارتكبناه ضيقًا بالحياة. وأخذنا نتسامر حتى الهزيع الأخير من الليل، وغادرنا المسكن، أما الشاعر والفنانة فسارا في الشارع الطويل الخالي ونحن في الناحية المضادة والحزن يملأ جوانحنا». وتضم «أحلام فترة النقاهة» ثلاثية جديدة لنجيب محفوظ في أحلامه بأرقام ٣٩٦ و٤١٧ و٤٣٧ بمفهومه للفساد الذي أصبحت رائحته تزكم الأنوف، حتى أنوف المتسببين فيه مثلما قال أحد المسئولين عنه يومًا: «الفساد في المحليات للركب». وبدأ محفوظ ثلاثيته بالبحث عن علاج فيكتشف في النهاية أنه علاج هلامي إذ يقول: «سمعت صوتًا آتيًا من الغيب يقول إنهم في العالم الآخر بدءوا يشمون رائحة كريهة صادرة من عالمنا؛ فنظر مستطلعًا فوجد السبب في الفساد المستفحل، فسألته: وماذا ستفعل؟ فقال: نحن نبدأ بالوعظ والإرشاد وإذا لم يُجْدِ ذلك عمدنا كارهين إلى وسائل أخرى».

وكان ممكنًا لنجيب محفوظ احتراف الموسيقى من شدة افتتانه بها، حتى إنه التحق يومًا بمعهد الموسيقى العربية ودرس فيه لمدة عام كامل ليحصل على أعلى الدرجات، ولو كان قد وجد توجيهًا سليمًا من أحد لتغير مسار حياته واختار طريق الموسيقى وليس الأدب، لكنه ظل يحفظ أدوارًا من التي درسها في المعهد مثل دور «السماعي الدارج» أجزاء بـ«الصولفيج»؛ وذلك لأنه كان يعزف على آلة القانون، وأستاذه فيه حفيد العقاد الكبير عازف القانون في فرقة أم كلثوم، وكان محفوظ حريصًا على حضور جميع حفلات أم كلثوم في مسرح الماجستيك منذ أن كان طالبًا في السنة الأولى الثانوية حتى الجامعة، وعندما ظهر الراديو كان يستمع إلى حفلاتها في المقهى. وعلى طول حياته لم يتعصب للون معين من ألوان الغناء وإنما ظل يحب القديم والجديد معًا، والشرقي والغربي، والبلدي والريفي والإفرنجي، فقد وجد في كل لون مزاياه وأسلوبه ونكهته، وتلك الروح نفسها التي تعامل بها أيضًا مع المذاهب الأدبية فلم ينكر أي لون أو مذهب أدبي باستثناء مذهب واحد عجز عن فهمه وهو «اللارواية»، وعلى مدى أحلامه الجديدة مكث الغناء يتسلل إلى بداياتها ومتنها وخواتمها. ومن تجميعنا لباقة تلك الأغاني والمواويل؛ أتى هذا النسيج المقتطف من زهور مئات من «أحلام فترة النقاهة»: «أنا كنت صياد سمك وصيد السمك غيّة، وتميل عليه وتقول له ليه طاوعتني، وحقك أنت المُنى والطلب، ياما انت واحشني وروحي فيك، أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر، يا بيت العز يا بيتنا. على بلد المحبوب ودّيني، زاد وجدي والبعد كاويني. أسمر ملك روحي، جفنه علَّم الغزل. خفيف الروح بيتعاجب، برمش العين والحاجب. من أد إيه كنا هنا من شهر فات ولَّا سنة، أيام ما كنا لبعضنا والدهر غافل عننا. ولد الهدى فالكائنات ضياء. وعلى دول يا امّه يا امّه على دول. لا تشغل البال بماضي الزمان».

وكأنها اللحظة. وكأن نجيب محفوظ يعيش معنا الآن في دوامة المهاترات، والتأجيلات، والدراسات اللامجدية، والاجتماعات التي لا تجتمع، والتأكيدات التي لا تتم، والوعود التي تتبخر، والمفاوضات التي تنتكس، والتبريرات التي تساق عبثًا، والرجالات الذين لا يوفون بالتزاماتهم في مسألة سد النهضة الإثيوبي الذي يكسب الوقت بأكل الوقت وتضييع الوقت. من عشر سنوات وأكثر كَتَب صاحب نوبل في حلمه رقم «٤٢٦» من «أحلام فترة النقاهة» وكأنه يقرأ الغيب ويستشف ما سوف يجري للنيل المقدس: «رأيتني من المقربين من حاكم الجنوب في مصر، وكان حديثه يدور حول الجماعات المتناحرة على شاطئ النيل، ويومًا قال لي إن النيل جاءه في المنام وقال له إنه يعهد إليه بتوحيد الجماعات المتناحرة في جماعة واحدة متعاونة، وأن يكون مَلِكًا عليها يقوم بتوزيع المياه بينها بالعدل». وهكذا كانت «أحلام فترة النقاهة»... وَمَضَات إنسانية انشغل بها نجيب محفوظ وصاغها وشذّبها على شاشة عقله بريشة وجدانه، ثم حفظها ليمليها كما ارتآها لتتحول إلى العمل الإبداعي العالمي الفريد من نوعه. وحمدًا لله أن كريمتيْه «فاطمة وأم كلثوم» قد أعادتا تنظيم أوراقه بعد غياب تسع سنوات؛ ليعثرا على ما انقطع من خيط الإلهام لتكتمل الأحلام.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك