اكتمل الوحي الإلهي بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، وذلك يوم عرفة في حجة الوداع للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان، مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسئولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى، وعلى مدار أكثر من ألف عام ظهر تراث إسلامي زاخر بالكتب في التفسير، والحديث، والسيرة، والفقه، وغيرها من العلوم الشرعية.
وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.
الحلقة الرابعة والعشرون
-الإمام الغزالي.. حجة الإسلام ومجدد عصره
يُعد أبو حامد محمد بن محمد الغزالي أحد أعلام الفكر الإسلامي وأشهر علماء المسلمين، وُلد في مدينة طوس بإيران، ونشأ في بيئة علمية حيث بدأ رحلته في طلب العلم منذ صغره.
بحسب المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فقد كان والده يعمل غزالًا للصوف، وعند وفاته أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق صوفي صالح، تكفل بتربيتهما وتعليمهما حتى نفد المال، فاضطرا إلى الالتحاق بالمدارس، حيث وفرت لهما المأوى والقوت، ومن هنا بدأت رحلته العلمية.
-رحلته العلمية وبروزه كعالم فذ
تلقى الغزالي علومه الأولى في طوس ثم انتقل إلى جرجان، ومنها إلى نيسابور حيث لازم إمام الحرمين أبا المعالي الجويني، ونهل من علومه حتى برع في الفقه والكلام والفلسفة والمنطق والتصوف، مما جعله من أبرز علماء عصره.
ويذكر المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية أن الغزالي بعد وفاة أستاذه انتقل إلى بغداد، حيث تولى التدريس في المدرسة النظامية بطلب من الوزير السلجوقي نظام الملك، وذاع صيته حتى أصبح مقصدًا لطلاب العلم من جميع أنحاء العالم الإسلامي، لما امتاز به من حسن التصنيف، وقوة الحجة، وسعة العلم، وتمكنه من مختلف الفنون.
-تحوله الفكري واعتزاله الناس
رغم المكانة العلمية الرفيعة التي بلغها، مرّ الغزالي بمرحلة من التحول الفكري والروحي، حيث ترك التدريس والجاه، واعتزل الناس وانقطع للعبادة والتأمل، متنقلًا بين الشام ومكة والمدينة، حتى عاد إلى بغداد بعد سنوات من العزلة، ووفقًا لما جاء في المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فقد كانت هذه المرحلة نقطة تحول في حياته، حيث اتجه إلى نقد الفلسفة والبحث عن يقين إيماني عميق، مما جعله يُنتج أشهر أعماله الفكرية التي ناقشت قضايا الإيمان والعقيدة والتصوف.
-إسهاماته الفكرية وتأثيره في الفكر الإسلامي
كان الغزالي عالمًا موسوعيًا، له كتب في الفقه، وأصول الفقه، والفلسفة، والتصوف، وعلم الكلام، ومن أشهر كتبه "إحياء علوم الدين"، و"تهافت الفلاسفة"، و"المستصفى في أصول الفقه"، و"المنقذ من الضلال"، حيث استطاع أن يقدم مشروعًا فكريًا متكاملًا، يجمع بين العقل والنقل، ويعيد التوازن بين العلم والدين، ويؤكد المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية أن الغزالي كان أحد أكثر العلماء تأثيرًا في الفكر الإسلامي، حيث ساهمت كتاباته في إعادة تشكيل النظرة إلى الفقه والتصوف والفلسفة، مما جعله يُلقب بـ "حجة الإسلام".
-وفاته وحسن خاتمته
ظل الغزالي على سيرته في العلم والزهد والتصنيف حتى وافته المنية، حيث يروي المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية أن أخاه أحمد الغزالي قال: "لما كان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وصلى، ثم قال: عليّ بالكفن، فأخذه وقبله ووضعه على عينيه، ثم قال: سمعًا وطاعة للدخول على الملك، ثم مدّ رجليه واستقبل القبلة وفاضت روحه قبل الإسفار".
وتوفي الإمام الغزالي سنة 505هـ في طوس، وترك خلفه إرثًا علميًا ضخمًا لا يزال أثره حاضرًا في الفكر الإسلامي حتى اليوم.
رأى الإمام الغزالي أن كثيرًا من المشتغلين بالعلم في زمانه اتجهوا إلى اكتساب الوظائف به، واشتغلوا بصورته عن تحقيق جوهره، ومنهم من اكتفى بظواهره وغفل عن أسراره ومقاصده، مما أدى إلى ضعف الأثر الروحي في حياة المسلمين.
بحسب المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، أراد الغزالي أن يوقظ النفوس ويحيي روح العلم ويكشف لطائفه، فشمّر عن ساعد الجد وشرع في تأليف هذا الكتاب العظيم، الذي يعد من أعظم كتب التربية الروحية والتزكية الإسلامية، حيث سعى إلى تقديم رؤية متكاملة للمنهج الإسلامي، تجمع بين العلم والسلوك، وبين الظاهر والباطن، وبين الشريعة والحقيقة.
ويتحدث الغزالي عن هدفه من تأليف الكتاب قائلًا: "فَأمَّا عِلْمُ طَريقِ الآخِرَة وما دَرَجَ عَلَيهِ السَّلفُ الصَّالِحُ ممَّا سَمَّاه اللهُ سُبحَانَه في كِتَابِه فِقْهًا وحِكْمَةً وعِلْمًا وضياءً ونورًا وهدايةً ورشدًا فقد أصبح من بين الخلق مطويًا، وصار نسيًا منسيًّا، ولما كان هذا ثلمًا في الدين ملمًّا، وخطبًا مُدلهمًّا، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهمًّا؛ إحياءً لعلوم الدين، وكشفًا عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحًا لمباهي العلوم النَّافعة عند التَّبيين والسَّلف الصالحين".
ووفقًا لما أورده المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فإن هذا الكتاب جاء ليضع تصورًا شاملًا للمنهج الإسلامي، بحيث يكون أشبه بصورة مصغرة للإسلام، تبرز أبعاده المختلفة في العبادات، والمعاملات، والأخلاق، والروحانيات.
يتميز "إحياء علوم الدين" بمنهجه الفريد الذي يجمع بين العقل والنقل، وبين الفقه والتصوف، وبين السلوك والمعرفة، وبحسب المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فقد بنى الغزالي كتابه على 4 أقسام رئيسية تعكس مختلف أبعاد الحياة الإسلامية، حيث خصص الربع الأول للعبادات، متناولًا ظاهر العبادات ومعانيها الروحية العميقة، وأهمية النية والخشوع في أدائها، أما الربع الثاني فخصصه للعادات، موضحًا ضوابط الحياة اليومية مثل آداب الطعام، والزواج، والعمل، والمعاشرة، وفقًا لمنهج الإسلام الأخلاقي، أما الربع الثالث فتناول المهلكات، حيث ركز على أمراض القلب مثل الحسد، والكبر، والرياء، والحرص، مبينًا خطورتها وطرق معالجتها.
في حين أن الربع الرابع خصصه للمنجيات، حيث استعرض الصفات التي تقرب العبد من الله، مثل الصبر، والشكر، والتوكل، والخوف، والرجاء، والتوبة، موضحًا سبل اكتسابها.
جاءت طريقة الغزالي في الكتابة جامعة بين التفسير العميق، والسرد المتسلسل، والاستدلال بالآيات والأحاديث، والاستشهاد بأقوال السلف الصالح. بحسب ما أورده المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فقد كان يبدأ كل باب بذكر الآيات المتعلقة بالموضوع، ثم يتبعها بالأحاديث والآثار، ثم يقدم تفسيرًا فقهيًا وروحيًا، يبرز من خلاله العلاقة بين ظاهر العبادة وحقيقتها الباطنة، كما يوضح دورها في تهذيب النفس وتقريب العبد من الله.
حظي "إحياء علوم الدين" بانتشار واسع وقبول كبير بين العلماء، حتى قيل: "من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء"، وبحسب المركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فإن هذا الكتاب أصبح أحد أهم المراجع في الفكر الإسلامي، خاصة في مجالات التصوف، والتربية الروحية، والأخلاق، حيث أثرى المكتبة الإسلامية برؤية متكاملة للإسلام تجمع بين العلم والعمل، وبين العقيدة والسلوك، ظل هذا الكتاب مرجعًا رئيسيًا في التصوف الإسلامي، وما زال أثره حاضرًا حتى يومنا هذا، ليبقى الإمام الغزالي أحد أبرز العلماء الذين قدموا رؤية شاملة للإصلاح الروحي والعلمي في الإسلام.
وغدا نلتقي مع كتاب جديد من المكتبة الإسلامية..
اقرأ أيضا
المكتبة الإسلامية (23).. علاء الدين الكاساني صاحب بدائع الصنائع أهم مراجع الفقه الحنفي