أنس القصاص يكتب: المرونة الاستراتيجية.. محدد حاسم للبقاء فى عالم ما بعد كورونا - بوابة الشروق
الإثنين 30 سبتمبر 2024 8:16 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أنس القصاص يكتب: المرونة الاستراتيجية.. محدد حاسم للبقاء فى عالم ما بعد كورونا


نشر في: السبت 24 أبريل 2021 - 7:29 م | آخر تحديث: السبت 24 أبريل 2021 - 7:29 م

مع بداية الألفية الجديدة، ومع انهماك وانشغال الإدارة الأمريكية فيما يعرف بالحرب على الإرهاب فى الشرق الأوسط، حققت الصين معدلات نمو ضخمة ونموذجا تنمويا يعتمد على الابتكار تناطح به القوى الغربية. أفاقت الولايات المتحدة على أزمة كبيرة ألا وهى الأزمة المالية العالمية فى 2008 وظلت إدارة أوباما تحاول علاجها طوال فترة رئاسته الأولى على الأقل. فى غضون ذلك الوقت، لم تتوان الصين عن إدهاش الجميع بمعدلات نموها المذهلة على شتى الأصعدة ومن بينها الصعيد العسكرى. من سنوات تطارد الصين الولايات المتحدة وأوشكت أن تصل لنقطة التعادل الاقتصادى فى وقت قصير (أو لعلها وصلت بالفعل وفقا لتقديرات البنك الدولى ومؤسسات اقتصادية أخرى). هذه المطاردة خلقت عالما مليئا بالشكوك فى المستقبل وكيفية حسم المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وهل سيكون ذلك وفقا لقواعد النظام الدولى أم أن الحسم هذا سيعبر فوق جثة النظام الدولى الحالى! فى ظل هذه الأثناء، جاءت جائحة كورونا لتزيد الطين بلة وتهز النظام الدولى من أعماقه وتضفى عليه حالة من التقلب وعدم اليقين والتعقيد والغموض.
منذ بداية التسعينيات، ومع انهيار الاتحاد السوفييتى ونهاية الحرب الباردة، أدركت دول كثيرة المفعول السلبى لمفهوم الاستقرار وآثاره القاتلة على قدرات الدول والمجتمعات فى مواجهة الأزمات، لا سيما مع النتائج البارزة للحرب الباردة التى شكلت النظام العالمى الجديد وفقا لمحددات كثيرة من بينها التعاطى مع المفاهيم القديمة وفى مقدمتها مفهوم الاستقرار. فالاستقرار فى حد ذاته يناطح حقيقة راسخة فى النظام الدولى الجديد مفادها أن تلك المنظومة الدولية هى تتغير أكثر مما تتغير بفعل تعدد متغيراتها وتطور الأحجام النوعية للاعبين الدوليين من آن لآخر، وأن ديدن هذه المنظومة هو التغير والتقلب وإن لم تتغير قواعد اللعبة الدولية. لذا، فإن مفهوم الاستقرار منبت الصلة بعالمنا اليوم وينتمى لإدراك سياسى شديد التأخر ينتمى فى أفضل الأحوال للنظام العالمى فى القرن التاسع عشر أو ما قبل الحرب العالمية الأولى. ومع عالم ما بعد الحرب الباردة، باتت مواجهة هذا التغير فى البيئة الدولية هى من قبيل المعارك الدون كيخوتية التى تحاول حرث البحر والنقش على الرمال.
أدركت الولايات المتحدة وبعض دول غرب أوروبا هذه الحقيقة مبكرا وساد فى أروقة التخطيط الاستراتيجى الأمريكية مصطلح VUCA الذى يرمز إلى طبيعة النظام الدولى الجديدة وتم تركيبه من الحروف الأوائلية للمفاهيم التالية: (Volatility, Uncertainty, Complexity, Ambiguity وتعنى ــ التقلب، عدم اليقين، التعقيد، الغموض). وكان أول من طرح هذا المصطلح هو البروفيسور وارين بينيس – المخطط الاستراتيجى الأمريكى البارز ــ لكن المفهوم سرعان ما تم اعتماده لدى كلية الحرب الأمريكية والعديد من دوائر الأمن القومى الأمريكى ذات الصلة مع نهاية الثمانينيات. سابقا على ذلك المفهوم، ظهر الواقعيون الجدد مع نهاية السبعينيات بمنظور يندرج فى إطار مشابه لذلك المفهوم (انظر أفكار كينيث والتز فى كتابه نظرية السياسة الدولية المنشور فى عام 1979) وهو ما جعل هذا المنظور للسياسة العالمية يدور فى رحى أكثر جدية وصرامة وقابلية أكبر للتبنى والاعتقاد ومن ثم الاعتماد وهو ما عبرت عنه استراتيجيات الأمن القومى للولايات المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضى وحتى الوثيقة المنشورة حديثا لإدارة بايدن. وظهرت بعد ذلك أفكار جون سوينى وضياء الدين سردار للتنظير لما أسموه «الأزمان ما بعد العادية Post ــ Normal Times» واصطلحوا على ظواهر وتحديات تلك الأزمان مثل ظواهر البجع الأسود والقناديل والفيلة السوداء؛ مما رسخ هذا المفهوم لدى مخططى السياسات فى كثير من أنحاء عالمنا اليوم وبات هو التفسير الأمين لذلك العالم متعدد الأبعاد والمرجعية الأمينة للتعامل مع تقلبات عالم اليوم.
جاء هذا الاتجاه لتوفير تفسير أكثر عقلانية وصرامة للبيئة الدولية فى إطار التحولات الكبرى التى برزت مع الحربين العالميتين والحرب الباردة. فالواقعية الكلاسيكية التى دعى لها مورجنثاو وآخرون والتى تفسر سلوكيات الدول فى إطار سلوكيات ومشاعر وعواطف الزعماء والعلاقات الشخصية فيما بينهم لم يعد له علاقة كبيرة بالواقع المعقد الذى نعيشه الآن وأصبح هذا التفسير ينطوى على إشكاليات ضخمة ولا يمتلك إجابات على أسئلة جوهرية فى صلب عالم اليوم فضلا عن القدرة على تفكيك البيئة التى يقوم بتفسيرها.
إن محاولة تفسير وتفكيك النظام الدولى الحالى وفقا لأدوات الواقعية الكلاسيكية أشبه بمحاولة فك شفرات من الجيل الخامس عن طريق تلغراف. كذلك، فإن طرح مسألة الاستقرار فى ظل عالم مملوء بالمتغيرات ويسوده صراع محموم على قمة النظام الدولى الذى يعانى كثيرا من تحولات جيواستراتيجية ضخمة فى ركائزه الأساسية وفى ظل جائحة لم يحسب لها أحد حسابه لهو من باب الإنكار القاتل الذى يقامر بكل المكتسبات ويضعها فى مهب الرياح.
لكن لا يمكننا الجزم بأن تفسيرات مورجنثاو غير صالحة على طول الخط. فهى إن كانت غير صالحة لسحبها على تصورات النظام الدولى إلا أنها صالحة لتفسير سلوكيات بعض الدول التى لا تزال تتخبط فى مجاهل عالم آخر غير الذى نعيش فيه. وهذه السلوكيات ليست خاصة فقط بعالم السياسة لكنها تنسحب كذلك على عالم الإدارة المؤسسية بشكل عام.
ففى مقال له بمجلة هارفارد بيزنيس ريفيو فى عام ٢٠١٠، قال عالم الإدارة دان أرئيلى إن من بين دلالات الإدارة الفاشلة هى بناء القرارات طويلة الأمد وفقا لمشاعر وقتية قصيرة الأمد. وقال بأن المدير الذى يتورط فى مثل تلك القرارات وجوده يضر بمنظومة العمل وسيكون أحد أسباب تداعى المؤسسة التى يديرها من حيث لا يقصد.
واستدرك دان قائلا بأنه ما من مشكلة فى غلبة العواطف والمشاعر علينا نحن البشر فلسنا ننتمى لدنيا الآلات لكن العيب والخطأ أن نضيع مكتسبات أيام طويلة بقرارات هوجاء جاءت استجابة لمشاعر وقتية ستزول سريعا وعبر عن ذلك بجملة شهيرة (LongــTerm Impact of ShortــTerm Emotions). وهذا بالضبط ما يتم من فترة لأخرى فى عالم السياسة ولنا فى العقود الأخيرة الماضية فى عوالم السياسة الإقليمية والدولية العبرة والمثل.
إن هذه الرؤية المركبة متعددة الأبعاد والزوايا لطبيعة النظام الدولى الحالى ينتظم فى إطارها منظومات متعددة تساعد على ترجمة هذه الأفكار إلى سياسات قابلة للتنفيذ والقياس فيما بعد مثل منظومات المرونة الاستراتيجية Strategic Resilience والصبر الاستراتيجى Strategic Patience وبعض المنظومات الأخرى ذات الصلة. فمنظومة الصبر الاستراتيجى على سبيل المثال تحاول النأى بالدول فى وقت الأزمات عن استفحال النزاعات بينها بدلا من تسويتها تسويات عادلة ومناسبة وضمان عدم الوقوع مجددا كأسرى لنفس الأحداث التى أبعدت نظاما عالميا بالكامل عن مساره فى الحرب العالمية الأولى أو تأسيس نظام جديد كما كان فى الحرب العالمية الثانية. لكن المنظومة التى تعنينا الآن هى منظومة المرونة الاستراتيجية وذلك لصلتها المباشرة بطبيعة النظام الدولى المركبة والمتغيرة.
فمع مد الخيط على استقامته بين أفكار وارين دينيس التى تتحدث عن عالم غامض ومعقد وغير متوقع وعن ممكنات العيش فيه والتعامل مع تعقيداته، ودان أرئيلى الذى يؤمن بضرورة وجود أخطاء بحكم طبيعتنا البشرية مع ضرورة الحد من الاستجابة للوازع العاطفى فى اتخاذ القرارات، ظهرت منظومة المرونة الاستراتيجية معتمدة على أركان عديدة من أهمها: قبول الواقع المتشابك للسياسة الدولية spaghettiــlike structure وفهم مصفوفة القوى وموقع الدولة / المؤسسة على صفحتها مع الإيمان بقدرات الذات على الفعل وكذلك تفادى الأخطاء الكبرى القائمة على ردود الأفعال غير المنطقية والتى قد تؤدى إلى الخسارة بدلا من جنى المكاسب ومن ثم النظر فى مستقبل الكيان (الدولة – المؤسسة) فى إطار الواقع المركب والمستقبل شبه المجهول.
يحاول مخططو المرونة بشكل أو بآخر تفكيك الواقع المعقد للبيئة المحلية أو الإقليمية أو الدولية على نحو واقعى واستبصار موقع الذات القومية / المؤسسية منها ثم الإسهام فى عقلنة وترشيد وحوكمة السياسات الدولية والإقليمية سواء للدول أو المؤسسات الكبرى كوسيلة للحد من الصراعات وتقليل الخسائر فى النظام والاقتصاد الإقليمى والدولى وخصوصا فى أوقات الأزمات الكبرى مثل أزمة جائحة كورونا الحالية. فمتغير كورونا قد أدى إلى خلل مؤكد فى اتزان النظام العالمى وكل ما تقوم القوى الكبرى بفعله الآن هو تفادى أن يؤدى هذا الخلل الناجم عن كورونا إلى الانحراف عن قواعد النظام الدولى والانتقام أو الانتقام المضاد بين الولايات المتحدة والصين، أو الولايات المتحدة وروسيا على سبيل المثال، أو نشوب نزاعات أو صراعات إقليمية أو بروز زوايا إقليمية أو دولية حادة sharp edges تقوم بالدفع نحو عوالم مختلفة لا يعرف الكثيرون عنها شيئا.
المرونة هى منظومة لفهم تعقيدات اليوم للوصول بأمان لعالم الغد الذى نرجوه – عالم أكثر إدراكا للمخاطر المحدقة به وأفراده أكثر ثقة فى أنفسهم وقدراتهم وأكثر انتباها للأخطاء والكوارث التى تنتج عن التكلس والتخندق وراء الأفكار القديمة وفى مقدمتها مفهوم الاستقرار.

أنس القصاص – باحث فى العلاقات الدولية والاستراتيجية وقضايا الصراع الدولى



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك