رشا عدلى ترسم شخصيات تنبض بالحياة وسط حكايات عن التحدى والخلاص
أفكار مغايرة ومشاعر متداخلة يتم نسجها ببراعة، فى رواية «جزء ناقص من الحكاية» للكاتبة رشا عدلى، والصادرة عن «دار الشروق» والدار العربية للعلوم «ناشرون»، حيث تقدم سردًا متشابكًا يجمع بين أزمنة ومدن مختلفة، بأسلوب يجعل القارئ يعيش تنقلات متلاحقة بين الأصوات المتعددة للشخصيات. هذه الأصوات تتداخل بين محاور تاريخية، فنية، ونفسية، مما يمنح الرواية أبعادًا متنوعة تضفى عليها زخمًا فكريًا ووجدانيًا.
نجد بين طيات الرواية أن المحور النفسى يحتل مساحة كبيرة من قوامها، حيث يتوازى مع معاناة أبطالها، ليبرز اضطرابات معقدة تعكس ما يعرف بـ«اضطراب ما بعد الصدمة »، مرورا بالمحور التاريخى للرواية يركز على لحظات الهزيمة فى 1967 ثم الانتصار فى 1973، حيث يظهر البعد التاريخى للرواية كمرآة تعكس الألم والخذلان، لكنها فى ذات الوقت تكشف عن عزيمة قوية للتعافى والمواجهة.
يصل القارئ بعدها إلى المحور الفنى فى الرواية، فهو متمركز حول شخصية فيفيان ماير، المصورة الفوتوغرافية، التى تُعدّ مرتكز الربط بين الأبطال، عبر عدستها التى لا تخطئ التقاط اللحظات الهاربة، تجمع فيفيان الشخوص فى إطار سردى متماسك.
بشكل سريع وإيقاع مشوق يجد القارئ نفسه فى قلب عمل أدبى أشبه بفيلم مرئى متعدد الزوايا، أو ألبوم من الصور الفوتوغرافية المليئة بالحكايات المتداخلة، فالرواية تحملك بين قصص تبدو منفصلة ظاهريا، لكنها مترابطة بخيوط خفية تكشف تدريجيًا عن لغز وجودى مشترك.
النقص الذى يميز كل حكاية لا يبدو مجرد غياب، بل هو سر الكمال نفسه، مفتاح التشويق الذى يجعلك لا تستطيع ترك الرواية قبل الوصول إلى نهايتها، حيث تلتقى الحكايات فى صورة مكتملة واحدة، ويتضح الجزء المفقود من القصة.
الرواية تتجاوز الحكايات السطحية لتغوص فى قضايا عميقة تعكس صراع الإنسان مع العالم من حوله ومع نفسه، رشا عدلى تفتح لنا أبواب التأمل فى موضوعات معاصرة وحيوية، مثل تأثير السوشيال ميديا وتوجهاتها، علاقة الأهل بأبنائهم، ورحلة الإنسان نحو التحرر والانعتاق عبر الفن.
هذه الموضوعات لا تُطرح بشكل مباشر، بل تأتى ضمن رسائل بين السطور، تحملك على التفكير وتعيد تشكيل رؤيتك لكثير من الجوانب الحياتية الهامة.
تتمحور الكثير من الأبعاد الأدبية الثرية حول شخصية «فيفيان ماير» المصورة التى تجمع صور الشخصيات، فى بناء الجسر بين أبطال القصة وخلق التلاحم الذى يكشف الغموض، فمن خلال عدستها، يصبح الفن أداة لكشف الحقائق المخبأة، وإعادة ترتيب شتات الحكايات فى لوحة واحدة متكاملة.
يكتشف القارئ على الدوام بمعاينة صفحات الرواية أنها ليست مجرد قصة تُروى، بل هى دعوة للقارئ أن يكون جزءًا من الحكاية، أن يبحث عن النقص ويجده، تمامًا كما تفعل الكاتبة فى عملها المتقن، والصادر عن دار الشروق بالتعاون مع الدار العربية للعلوم، ناشرون.
فى «جزء ناقص من الحكاية»، تثبت رشا عدلى براعتها فى رسم الشخصيات، متجاوزة الأساليب التقليدية التى تعتمد على وصف الملامح الخارجية كالأطوال أو الأشكال، بدلا من ذلك، تأتى الشخصيات نابضة بالحياة من خلال عمق أفعالها وأفكارها، ما يجعل القارئ يتخيلها بوضوح تام دون الحاجة لأى تفاصيل شكلية مباشرة، كل شخصية تملك حضورًا قويًا وشعورًا ذاتيًا يمس القارئ، مما يعزز انغماسه فى النص ويمنحها حقيقية لا تُنسى.
إحدى نقاط قوة الرواية هى الانتقال المتقن بين الأزمنة المختلفة، بدءًا من نكسة 1967، مرورًا بحرب 1973، ووصولًا إلى الزمن الحاضر، رغم تعقيد الأزمنة وتشابك الأحداث، إلا أن الكاتبة تمكنت من تقديم هذا التنقل بسلاسة تُبقى القارئ مندمجًا دون شعور بالارتباك، كما أن تقسيم الرواية إلى «لقطات» قصيرة ومتلاحقة أضاف إيقاعًا سريعًا ومنسجمًا مع طبيعة القصة، حيث تشبه هذه اللقطات شريطًا سينمائيًا يتقدم بثبات نحو كشف الغموض، مما يُبرز مهارة الكاتبة فى التحكم بالسرد وإدارة الزمن.
نصوص الرواية من النوع الذى يترك أثرًا طويل الأمد فى نفس القارئ، مع كل صفحة، تترسخ علاقتك بالشخصيات والأحداث، وتظل الأفكار والمشاعر التى تبعثها الرواية فى داخلك حتى بعد انتهائها، مع المضى فى محطات هذا العمل نجد أحد أهم مكامن قوته فى تأثيره الهادئ والعميق الذى يرافق القارئ، ويجعله يعيد التفكير فى تفاصيل الحياة التى قد تبدو ناقصة لكنها فى الواقع مكتملة بمعناها.
قدمت رشا عدلى دروسًا حياتية غنية من خلال شخصيات روايتها، مستنبطة معانى الصراع والتغلب عليه من تجاربهم العميقة، فما يميز رواية «جزء ناقص من الحكاية» هو قدرتها على امتداد السرد عبر ستة عقود زمنية، ترصد فيها الكاتبة المتغيرات التى طرأت على النفوس والمجتمع من نكسات الحروب إلى تغيرات العصر الرقمى، تُبرز الرواية تحولات متداخلة تُصوّر بذكاء القيم الإنسانية والصراعات الحياتية. أسلوب الكاتبة متفرد وفائق الروعة، إذ تبنى لوحات متلاحقة من الشخصيات، مرتبطة بعدسة كاميرا فيفيان التى تجمع الشخوص فى إطار واحد. مع كل لقطة، تزداد الأبعاد وضوحًا، حتى تتجلى الرواية فى صورة لوحة فنية معقدة ومترابطة، تحمل عمقًا نادرًا ومغزى ممتدًا يتكشف مع كل صفحة.
تمكنت رشا عدلى من التلاعب المحبب بخيال القارئ بين فكرة النقص والاكتمال، بين ما كان وما صار، وبين الماضى والحاضر، لتضعه فى معادلة مثيرة من التناقضات، ومع هذا التبعثر، تُعيد الكاتبة ترتيب الأجزاء المفككة لتنسج صورة مكتملة للحكاية، حيث تسير الرواية كرحلة فكرية تمزج بين الكمال الناقص والنقص المكتمل، تدفعك للتساؤل: هل نصل إلى الكمال أم أنه مجرد وهم؟ هذه الحيرة هى جوهر العمل، من الحرب إلى السلم، ومن الصدق إلى الرياء، ومن الحب إلى الخيانة، تحمل الرواية رايات الحياة فى أزمنة متعددة، هى عمل أدبى يلامس القلب بعذوبة، ويترك أثرًا ملموسا فى وجدان القارئ.