كان وأصبح (24): قصر إلهامي باشا.. سكنه اللورد كرومر وبُنيت على أطلاله «كنيسة الدوبارة» - بوابة الشروق
الجمعة 25 أكتوبر 2024 3:24 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كان وأصبح (24): قصر إلهامي باشا.. سكنه اللورد كرومر وبُنيت على أطلاله «كنيسة الدوبارة»

إنجي عبدالوهاب
نشر في: الأربعاء 29 مايو 2019 - 9:10 م | آخر تحديث: الأربعاء 29 مايو 2019 - 10:02 م

لا ينفصل تاريخ الفنون عمارة وتصويرًا ونحتًا عن السياسة والاجتماع والاقتصاد، ولا تقتصر قيمته على الجمال والإبداع والاحتراف، بل هي شهادة حية على أيام خلت وأحداث مضت وشخصيات كان يمكن أن تتوه في غياهب النسيان.

وفي سلسلتنا الجديدة «كان وأصبح»، التي ننشر حلقاتها على مدار شهر رمضان، نعرض نماذج لحكايات منشآت معمارية أو قطع أثرية مصرية تنتمي لعصور مختلفة، تسببت التحولات السياسية والاجتماعية في تغيير تاريخها، أو إخفاء معالمها، أو تدميرها بالكامل، لتخبو بعدما كانت ملء السمع والبصر.

وتُنشر الحلقة الجديدة من تلك السلسلة يوميًا في الثامنة مساءً بتوقيت القاهرة..

ونورد في هذه الحلقة قصة قصر أرملة الأمير إبراهيم باشا إلهامي، الذي عاش فيه اللورد كرومر، مندوب الاحتلال الإنجليزي على مصر لنحو 23 عامًا، حتى تغير اسمه ليصبح «قصر الدوبارة»، قبل أن يهدم ويقام على جزء من أطلاله «كنيسة الدوبارة».

كان قصر الأمير إبراهيم باشا إلهامي (1836: 1860)، ابن الخديو عباس الأول والي مصر، يقع في منطقة الباشوات الممتلئة بقصور الأسرة العلوية، حتى أنها عُرفت بمنطقة القصور والبساتين، فعلى أطراف مدينة «جاردن سيتي» وقع قصر الأمير إبراهيم إلهامي الذي شهد قصة مأسوية بعدما توفي الأمير الشاب في سن الـ24 عاما، لتصبح جدران القصر خاوية على أرملته وابنته التي لم تكن تجاوزت العامين آنذاك.

ويرجع تاريخ إنشاء قصر الأمير الذي توارى اسمه ليعرف القصر لاحقًا بـ«قصر الدوبارة» حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر، وينسبه الكاتب عباس الطرابيلي في كتابه «شوارع لها تاريخ» إلى الأمير إبراهيم باشا إلهامي، إذ انتقلت ملكية القصر عبر وفاته إلى أرملته الأميرة منيرة سلطان، ابنه السلطان العثماني عبد المجيد الأول، وابنتها الأميرة أمينة هانم إلهامي، ويبدو أن الأميرة منيرة اعتادت استضافة نساء الأسرة العلوية لديها حتى أن القصر عُرف بذلك.

لم توثق المصادر الرسمية «قصر إلهامي باشا» المعروف لاحقًا بـ«قصر الدوبارة» بصورة فوتوغرافية معتمدة، بل تعددت الصور المنسوبة إلى القصر في المدونات الحرة، لكن يمكن استلهام هيئة القصر الأولى مما أوردته الكاتبة الإنجليزية صوفيا لين، شقيقة المستشرق الإنجليزي، إدوارد لين، في كتابها الصادر في لندن عام 1884 تحت عنوان «حريم محمد علي باشا.. رسائل من القاهرة»؛ ففي رسالة تضمنها الكتاب حملت عنوان «وليمة في قصر الدوبارة».

وصفت صوفيا القصر قائلة: "يستحق هذا البناء الفخم أن يكون ملاذ نساء أسرة محمد علي المفضل؛ فهو قصر ذو بوابة فخمة وأسوار عالية يقع نهاية طريق طويل مغطى بعريشة يتشابك بها نبات الكروم، وإلى آخر الطريق الممتلئ بمزارع إبراهيم باشا إلهامي، وقبل الولوج لبوابة القصر تجد قدميك تسير على أرضية مرصوفة بالرخام البديع ناصع البياض على امتداد ممرات عديدة ينتهي كل منها لدى باب به ساتر من حرير (الجوبلن)، لا يمكن رفعه سوى لضيفات نساء الأسرة العلوية".

أصبح القصر الذي ظل يستقبل جلسات نساء الأسرة العلوية شاغرًا عقب وفاة الأميرة منيرة سلطان في الآستانة عام 1862، قبل أن تعود إليه ابنتها الأميرة أمينة هانم إلهامي لاحقًا، بعد إتمام تعليمها، ليقع اختيار الخديو إسماعيل عليها ليزوجها لابنه الأمير توفيق عام 1873 قبل أن يصبح حاكمًا لمصر، وجرى حفل زواجهما ضمن حفل الزاوج الجماعي الذي أقامه الخديو إسماعيل لأبنائه، واستمر 40 ليلة فيما عُرف بـ«أفراح الأنجال».

كان القصر ضمن ثلاثة قصور شهيرة وقعت في منطقة جاردن سيتي الوليدة آنذاك، أبرزها القصر العالي قبل أن تتحول في عهد الخديو إسماعيل إلى منطقة محورية، أما مكانه فكان ذلك المربع الذي يقع فيه حاليا فندق «شبرد»، وكان يطل غربًا على نهر النيل، ويمتد سوره وحدائقه جنوبًا إلى شارع «لاظ أوغلي» حيث تقع السفارة البريطانية الآن، وشرقًا حتى شارع الوالدة باشا، حيث تقع السفارة الأمريكية الآن، وشمالا إلى كوبري قصر النيل، وتحديدًا لدى الشارع الفاصل بين فندقي "شبرد" و"سميراميس"، أما الميدان المتاخم له فكان يسمى بـ«ميدان إلهامي باشا» نسبة إلى قصره، قبل أن يتغير اسمه لاحقًا ليسمى بـ«ميدان سيمون بوليفار».

لم ينفصل القصر عن الزخم السياسي الذي شهدته مصر في هذه الحقبة الثرية والممتلئة بالأحداث، بل ظل شاهدًا عليها، فمع قدوم الاحتلال البريطاني إلى مصر في العام 1882 أصبح قصر الأميرة أمينة هانم إلهامي، سكنًا للمعتمد البريطاني، إذ سكنه في بداية الأمر اللورد دوفرين لمدة عام واحد، ثم عقب مغادرته إلى الآستانة في نوفمبر 1883، أصبح سكنًا للسير إفلين بارنج الشهير باللورد كرومر، ابتداءً من 11 سبتمبر 1883، ومن هنا تغيرت تسمية القصر ليحمل اسمًا ساخرًا هو «قصر الدوبارة».

اضطرت جدران القصر لاحتضان المعتمد البريطاني، لورد كرومر لنحو 23 عامًا منذ عام 1883 وحتى عام 1907، تمتع خلالها كرومر بسلطة مطلقة على مصر، متطفلًا بذلك على سلطة الحاكم الفعلي للبلاد، وعلى ملكية القصر الذي سكنه رغمًا عن رغبة مالكيه، وكان كرومر يزاول أعماله من القصر تحت إشراف وزارة الخارجية الإنجليزية في لندن، التي كانت بدورها تتسلط على الحاكم الفعلي للبلاد، إذ عين الاحتلال مستشارين في النظارات المصرية لتنفيذ سياساته.

ويبدو أن السبب وراء تغير تسمية القصر من قصر إلهامي باشا إلى قصر الدوبارة هو مكوث اللورد كرومر به، إذ تلاشى اسم القصر من الذاكرة الجمعية للمصريين الرافضين للاحتلال، وحل محله اسمًا جديدًا يحمل دلالة سلبية، فهو اسم ساخر مرتبطًا بتسلط الإنجليز على الحاكم المصري الذي بدا كدمية في عهد الاحتلال، وكأنما رُبط وقُيد بدبارة يتحكم بها الإنجليز، ليطلق على قصر المعتمد البريطاني في عهد الاحتلال اسما جديدًا هو «قصر الدوبارة»، ويقول الكاتب سعيد مكاوي في كتابه "القاهرة ومافيها.. حكايات أمكنة وأزمنة"، أن القصر شهد احتجاجات المصريين خلال النضال السياسي ضد الاحتلال البريطاني قبل ثورة 1919، إذ كانت التظاهرات تتجه نحوه مرارًا.

"أطلال القصر تتحول إلى مدرسة وفندق وكنيسة"
مر القصر بمراحل عديدة قبل هدمه؛ ففي عهد الخديو فؤاد الأول، ابن الملك فاروق آخر ملوك مصر، تحول إلى كلية قصر الدوبارة للفتيات في العام 1925، بحسبما أورده الكاتب سعيد مكاوي في كتابه" القاهرة ومافيها.. حكايات أمكنة وأزمنة"، ثم انتقل كلية البنات إلى موضع آخر، أُخلي القصر، وهدم القصر في عهد الملك فاروق الأول، آخر ملوك مصر بهدف توسيع كوبري قصر النيل، ويبدو أن هدم القصر جاء في منتصف أربعينات القرن إذ بيعت منقولاته في مزاد علني، وفي ديسمبر عام 1941 بيع مبنى القصر فقط أي جزء من المساحة الكلية التي كان أقيم عليها مقابل مبلغ 14 ألف جنيه؛ بهدف هدمه ليحل محله كنيسة أنجيلية.

وضع الملك فاروق حجر الأساس للكنيسة عام 1947، واكتمل بناؤها عام 1950، وكانت المفارقة أن الكنيسة التي تم بنائها على أطلال القصر حملت اسمه وسميت بـ«كنيسة قصر الدوبارة» وكما كانت هذه الرقعة شاهدًا على هتافات ثوار ثورة 1919 الغاضبة من تسلط الاحتلال، احتضنت الكنيسة ثوار يناير 2011 وفتحت أبوابها كمستشفى ميداني لجرحاهم.

بعد بناء الكنيسة على أطلال القصر المهدوم بيعت الأرض التي أُقيم عليها جزءًا تلو الآخر، وأقيم عليها منشآت متعددة إذ أقيم على جزء من أطلاله عمارتي إيزيس وأوزوريس في الجزء الجنوبي (أي بجوار السفارة البريطانية الحالية وفي مقابل السفارة الأمريكية تمامًا)، ثم عقب احتراق مبنى فندق شبرد القديم إبان حريق القاهرة الواقع في يناير 1952، بُني فندق شبرد الجديد على جزء آخر من مساحة القصر لدى تلك الواجهة المطلة على نهر النيل النيل.

وفي أعقاب ثورة يوليو 1952، شيد مبنى لوزارة الصناعة شرقي الفندق ومدرسة إعدادية سميت بـ«مدرسة علي عبداللطيف»على ما تبقى من مساحة أرض القصر، وحينها تغير اسم الميدان الذي كان القصر يقع على مقربة من القصر من «ميدان إلهامي باشا» إلى «ميدان سيمون بوليفار».

مرت عقود وعهود واختزل اسم القصر في مبنى الكنيسة الإنجيلية، ومدرسة على عبداللطيف الإعدادية، وانتهى اسمه القديم تمامًا بتغييراسم الميدان المتاخم له من ميدان «إلهامي باشا» إلى «ميدان سيمون بوليفار» لكن القدر شاء أن يظل اسم «كنيسة قصر الدوبارة» شاهدًا ليخلد ذكرى المراحل التاريخية التي برً بها القصر.

وغدًا حلقة جديدة..



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك