(مواقف) أنيس منصور.. وتحولاته المدهشة - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 7:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(مواقف) أنيس منصور.. وتحولاته المدهشة

نشر فى : الأحد 6 نوفمبر 2011 - 11:30 ص | آخر تحديث : الأحد 6 نوفمبر 2011 - 11:30 ص

يمكن قراءة عنوان هذا المقال على أنه تناول لمواقف أنيس منصور الثقافية ومحطات حياته، وتحولاتها عبر مسيرته الطويلة التى امتدت لأكثر من ستين عاما، وهو أمر مهم، ولكنه يحتاج حقا إلى أكثر من مجرد مقال سريع فى مناسبة رحيله. ويمكن قراءته على أنه إشارة إلى «مواقف» اسم الباب الذى كان يكتبه كل يوم، فى جريدة (الأهرام) لسنوات طويلة. وهو اسم أخذه كما يعرف الكثيرون من جان بول سارتر الذى كان يعنون به أيضا مقالاته الشهرية الضافية التى كان يكتبها فى مجلته الشهيرة (الأزمنة الحديثة) فى أربعينيات القرن الماضى وخمسينياته، والتى صدرت فى ما يقرب من عشرة مجلدات فيما بعد، وترجم جورج طرابيشى معظمها فى ستينيات القرن الماضى وسبعينياته. وشتان بين «مواقف» سارتر المكتوبة والعملية معا، و«مواقف» أنيس منصور الذى أخذ عنه فكرته.

 

وربما تكون هذه المفارقة هى التى دعتنى لعنونة هذا المقال بمواقف. فمع أن أنيس منصور كان على وعى حقيقى بمواقف سارتر، وبالدلالات المتعددة لكلمة «مواقف» عنده على الصعيد الفلسفى، باعتبارها موقفا يأخذه الإنسان إزاء نفسه وإزاء العالم، ويتحمل معه فداحة مسئولية اتخاذه له. فالموقف عند سارتر اختيار عقلى واعٍ له دلالاته على ما اختار المثقف، وعلى ما رفض اختياره على السواء. لأن المثقف عنده، بل الإنسان نفسه، موقف واختيار، وكان أنيس منصور على وعى بمعنى الكلمة، وبما تنطوى عليه من تواريخ. فهو من بدأ حياته الثقافية مفتونا بسارتر، ومعرفا بفلسفته الوجودية، فإن المفارقة المدهشة أن أنيس منصور استعار المصطلح السارترى بعد أن تخلى كلية عن كل موقف، بالمعنى السارترى للكلمة. وخاصة موقف المثقف الذى بدأ حياته مجسدا لحلم قطاعات واسعة من أبناء شعبه.

 

لكن دعنى أبدأ باكتشافى الأول لأنيس منصور، فقد كنت فى بواكير المراهقة، وفى سنوات عشريتى الأولى My teens كما يقول الإنجليز، أى ما بين الخامسة عشرة وحتى العشرين ربما، مفتونا بكتابات أنيس منصور منذ أن وقع فى يدى كتابه الأول عن «الوجودية» الذى صدر فى سلسلة «كتب للجميع» القديمة التى كانت تصدرها دار التحرير فى الخمسينيات. شدتنى جدية موضوعه، ورشاقة عرضه للموضوع، وشرحه للمفاهيم الفلسفية العويصة بطريقة تسهل على القارئ استيعابها، وأهم من هذا كله غناه المعرفى الذى قدمه الكاتب بسلاسة ويسر. كان كتابا سهلا رشيق الأسلوب حقا، ولكنه من نوع السهل الممتنع، يقدم معرفة حقيقية بعالم يدخل فيه قارئه، ويفتحه له على مصراعيه، ويأخذ بيده فيه بطريقة تجعل الفلسفة شيئا مشوقا كالأدب تماما. كان الكتاب الذى قرأت فيه لأول مرة عن جان بول سارتر وألبير كامى، وذهبت أبحث عن أعمالهما بعدها. وأهم من ذلك بدأت أتابع مقالات أنيس منصور الأسبوعية فى جريدة (الأخبار) وقتها.

 

والواقع أن من ينظر إلى أعمال أنيس منصور الآن بأثر رجعى، يجد أن أهم أعماله، وهى التى أسست سمعته وخلقت رأسماله الرمزى، هى أعمال سنوات البدايات تلك. فقد كان وقتها الصحفى الوحيد الذى درس الفلسفة، ومن سمات الفلسفة أنها تمنح دارسها عمقا وبصيرة، وقدرة على الرؤية المرهفة والتفسير والتنظير، وتمكنه من الكشف عن الجوهرى وراء مختلف التبديّات العرضية المتعددة. وكانت هذه هى الفترة التى أخذ أنيس منصور يكتب فيها ما أصبح فيما بعد كتابه الأشهر (حول العالم فى 200 يوم)، وهو عنوان مأخوذ هو الآخر بتصرف طفيف عن جول فيرن، حيث كان يكتبه على شكل مقالات أسبوعية يبعث بها للأخبار، وهو يجوب أصقاعا لم يسمع عنها قارئه من قبل، وكانت أحيانا مشفوعة بمطالبات لـ(الأخبار) بإرسال نقود له حيث نفدت نقوده، وأصبح عرضة للكثير من الأزمات والمواقف المحرجة فى الخارج، بالصورة التى أذكر معها أننى كنت كقارئ أشعر بالقلق على مصيره إذا ما تأخر وصول النقود إليه.

 

كنا فى أواخر الخمسينيات أو مطلع الستينيات، ولم يكن العالم قد أصبح قرية كونية بعد، ولم تكن هناك أى وسيلة سهلة لنقل صورة حية عن بلد آخر إلى من لا يراها بنفسه، فلم يكن هناك تليفزيون، ناهيك عن الإنترنت. وكان حلم السفر فى العالم هو قرين حلم الثقافة وتوسيع مدارك الإنسان وعالمه المعرفى والعملى معا. وكان كثيرون من أبناء جيلى الذين قدموا من الريف إلى المدينة يحلمون بالسفر إلى ما وراءها، بعدما سافروا كثيرا على صفحات الكتب التى أدمنوا قراءتها، وها هو واحد من بنى جلدتهم يسافر بالنيابة عنهم، ويرى بالنيابة عنهم ما يعيشه فى تلك الأصقاع البعيدة الغريبة، ويكتب لهم عما رآه وعما عاشه. وكأنه السندباد، لا فى الرحلة الطالعة من قلب (ألف ليلة وليلة)، ولكن فى الواقع. وكان كثيرا ما يستجيب لما يطلبه منه على أمين وهو يرسل له الدفعة المطلوبة من الأموال، من أن يجرى تحقيقا مع الدالاى لاما مثلا، وكأنه حقا هو مندوبنا فى تلك الأصقاع الغريبة. كان هذا هو سر سحر هذا الكتاب حينما نشر منجما، لأنه مكن القارئ من أن يعيش التجربة فى زمنها الفعلى، وليس فى زمنها المكتوب. كنا نعيش كقراء هذه الأيام المائتين لا على صفحات كتاب، وإنما فى مائتى يوم معه، وكنا نشعر بشىء من الزهو، وقد استطاعت مصر بعد الثورة أن ترسل أحد أبنائها ليرى العالم لها، ويكتب عنه لمواطنيه. وظل الكتاب محتفظا ببعض هذا التأثير حينما اكتملت الرحلة وجمعها فى كتاب. وانتشر الكتاب وذاع صيته، لأنه أمسك بتلابيب تلك اللحظة، لحظة رغبة أمة بأكملها، خرجت بالكاد من قيود الاستعباد والقهر والاستعمار، فى السفر فى العالم.

 

وليس سهلا أن يحتفظ كاتب بقدرته على التعبير عن حلم أمة، وإن كان أنيس منصور قد وعى فى مستوى من المستويات بأن هذا هو سر نجاحه والتفاف القراء من حوله. لذلك أراد أن يسافر فى رحلات أخرى، ولكن (الأخبار) عرقلت مشاريعه تلك. فبنية ثقافتنا، بما فيها من نقص فى الموارد، ومعايير مختلة تطلب من الصحفى الذى سافر مرة أن يفسح المكان لغيره ليسافر، حتى ولو لم يكن قادرا على القيام بما قام به أنيس منصور، أو تطلب من أنيس منصور أن يقوم بأعمال أخرى فى الجريدة التى لا تستطيع مواصلة الإنفاق على رحلاته، هى بنية لا توفر لكاتب أن يكرس حياته لفن من هذا النوع أجاد فيه وأبدع. بمعنى لا توفر له الموارد المادية الضرورية للسفر نيابة عن القراء. وبقى هذا الهاجس فى السفر فى العالم نيابة عن قرائه يراوده، وكلما سنحت له فرصة كتب كتابا جديدا فى هذا الفن: أدب الرحلات. وفى ظنى أن ما سيبقى من أنيس منصور، هو ما كتبه فى أدب الرحلات، على اختلاف أنواعه. والواقع أن نجاح الكتاب الكبير لم يشفع له بأن يسافر فى رحلات جديدة، فقد كان لابد أن تمر سنين، قبل القيام برحلة أخرى. سنين كان فيما يبدو مطالبا فيها، أمام نفسه على الأقل، أن يحقق نجاحا مماثلا لما حققه كتابه ذاك.

 

قد يكون هو الذى وضع أنيس منصور فى أزمة. وقد تكون هناك أسباب أخرى قد يرجع بعضها لنزعة فلسفية تهكمية ذاتية فيها شىء من الاستعلاء على حال الصحافة والصحفيين، الذين كان كثيرون منهم أقل منه ثقافة وموهبة وأكبر حظا، وأشد سطوة. وقد يكون السبب أن عددا كبيرا من القراء الذين كنت أحدهم أو أمثل شريحتهم، قد بدأت تستقطبهم كتابات أكثر جدية مثل كتابات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما بعيدا عنه. وقد تكون هنا أسباب أخرى لا أعلمها، ومنها عقدة نجاح عمل كاتب ما بشكل كبير وواسع، والرغبة التى قد تتسم بشىء من التوتر فى الحفاظ على هذا النجاح أو حتى تجاوزه. المهم أن أنيس منصور بدأ بسرعة يفقد كثيرا من القراء الجادين الذين افتتنوا به. ويبحث عن قراء من نوع جديد، وربما أوسع قاعدة، فبدأ يكتب عن تحضير الأرواح، وانشغلت القاهرة ومصر كلها معه بتلك العملية، وأخذت شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، وقد أحبطت تناقضات المرحلة الناصرية حلمها تقيم جلسات تحضير الأرواح فى غرف خافتة الإضاءة علها تحقق عبرها ما أخفق المشروع الناصرى فى تحقيقه لها. ثم بدأ بعدها فى الكتابة عن الذين هبطوا من السماء أو الذين صعدوا من الأرض، وغير ذلك من الموضوعات التى بدد فيها طاقته وأسلوبه، ولكنه ظل قادرا بها على استقطاب نوع آخر من القراء، قراء التسلية البسيطة والقراءة الخفيفة، والاحتفاظ بهم طوال مسيرته.

 

وقد جرب أنيس منصور الكتابة الإبداعية فكتب القصص والمسرحيات الخفيفة من عينة (حلمك يا شيخ علام) أو (جمعية كل واشكر)، ولكن أعماله الإبداعية لم تحظ بأى اهتمام نقدى فى حينها، فقد كان هذا زمن استئثار نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وأضرابهم بكل الاهتمام النقدى. وربما كان تجاهل النقد له وراء عملية أخرى له، أغرب من عمليات تحضير الأرواح، ونشر الخرافة. وهى السخرية العملية، فى شكل «مقلب» من الأدب الجاد الذى كان النقاد قد انشغلوا به عنه وعن أضرابه وقتها. ومن عاشوا هذه الفترة، فترة صعود أنيس منصور، يذكرون كيف وظف صحفى شاب كان يعمل معه فى تلك الفترة اسمه أحمد رجب لم يكن يعرفه أحد، فى الإيقاع بعدد من النقاد الكبار فيما عرف باسم فضيحة «الهواء الأسود». حينما كتب هو وأحمد رجب مسرحية بهذا العنوان، وبعث بها مع أحمد رجب يطلب رأى النقاد فيها باعتبارها إحدى مسرحيات اللامعقول المترجمة. ووقع فى الفخ وقتها نقاد مرموقون من عينة عبدالقادر القط ورجاء النقاش وآخرين. وصارت فضيحة تتحدث عنها الصحافة الثقافية لأسابيع. كان أنيس منصور شغوفا بأن يشغل القراء بأى شكل من الأشكال، مع أنه خلب لب الكثيرين منهم بأعماله الجادة فى بداية حياته.

 

ولأن إمكانات أنيس منصور كبيرة بحق، يرفدها تكوين فلسفى، وأسلوب لغوى رشيق، استطاع الاحتفاظ بجمهور واسع من القراء رغم تحولاته المدهشة. حينما حانت له مع عصر السادات فرصة أن يصبح الكاتب الكبير والنجم الكبير، وكاتب خطب الرئيس الذى لا يبارى، كان قد كبر فيما يبدو أو سئم السفر. واختار طريقا محفوفا بالتهكم الأسود والمرارة، وهو أن يدعم الرئيس الذى حقق له حلمه فى أن يصبح الصحفى الأول فى صلحه المنفرد مع العدو الصهيونى. وأخذ يروج للتطبيع، بل جعل من (أكتوبر) المجلة التى أسسها ومنحها لمرارة المفارقة اسم الشهر الذى تحول إلى رمز لانتصار الهزيمة، المنبر الذى يسعى لفرض العدو الصهيونى على القراء. وظل مخلصا لاختياره ذاك ربما حتى النهاية. ولكن ما جعله قادرا حتى النهاية أيضا على الاستحواذ على القراء برغم غرابة اختياراته وتحولاته، هو أنه يختلف عن غيره من الصحفيين فى شيئين أساسيين: خلفيته الفلسفية ورشاقة جملته والشغف بتقديم المعلومة الجديدة للقارئ بيسر وسلاسة.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات