شاعر الكثافة وجواهرجى الكلمات - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 3:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شاعر الكثافة وجواهرجى الكلمات

نشر فى : الجمعة 13 يناير 2012 - 9:15 ص | آخر تحديث : الجمعة 13 يناير 2012 - 9:15 ص

حينما كتب إبراهيم أصلان قبل عام فى مقال بالأهرام بعنوان «تجريد السمكة» (28 ديسمبر 2010) عن زيارته الأولى للعراق، وقال «عندما دعيت إلى المربد الثانى ببغداد فى العام 1972 كانت هى المرة الأولى التى أغادر فيها مصر... ولأن المربد فى بداياته كان مهرجانا للشعراء ونقادهم، حضره فى دورته الثانية تلك ستة أذكر منهم المحقق الكبير الشيخ محمود شاكر والدكتور القط ورجاء النقاش وسامى خشبة والشاعر عفيفى مطر، وهؤلاء جميعا رحلوا ولم يبق حيا من الوفد حتى اللحظة إلا الدكتور صبرى حافظ وكاتب هذه السطور، أطال الله عمرينا ولو قليلا. كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد». وقرأت هذا المقال عن بعد، لمستنى جملته الاعتراضية الجميلة ودعاؤه، «أطال الله عمرينا ولو قليلا. كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد». وتوقفت فيها عند «ولو قليلا! كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد» التى تكسب الحكى الشيق فى المقال بصمة أصلانية خالصة. يكشف فيها تقشف الجملة وتركيزها وبساطتها عن غناها الفادح بالدلالات. ها هو أصلان «جواهرجى الكلمات البسيطة» يهزنى من جديد! يكشف دعاؤه البسيط لنا بطول العمر، ولو قليلا، عن وعى مضمر بأنه لم يبق لنا إلا القليل! وعن نداء ملتاع ماذا جرى لنا؟ وكيف مرت تلك السنين؟ ولماذا انتهكت بغداد وتدهورت ككل شىء فى هذا الزمن الردىء؟ كان الجميع شبابا، وهكذا بغداد! كلمات قليلة ولكنها مشحونة بالمعنى، تفتح مخزون الذكريات، وتطرح الأسئلة المدببة على النفس والعالم.

 

ذكرنى إبراهيم بضربة معلم بالزمن الجميل، وببغداد فى تألقها الذى استقبلتنا به مفتوحة الذراعين ترينا أفضل ما فيها، وتستوعب أفضل ما فينا. فلما عدت بعدها لمصر اتصلت به والتقيته فى «الجريون» وتبادلنا الذكريات الحلوة عن تلك الأيام الرخيّة البعيدة... كانت تلك الزيارة الأولى لنا كلينا خارج مصر، وكلما ذكرته بشىء منها: فاكر يا إبراهيم! حتى يتدفق بالحكى الجميل. فقد كان، وما أصعب أن أبدأ الحديث عنه بفعل كان! حكاء لا يشق له غبار. كان مندهشا فى تلك الزيارة بوقع ما كتبه، مجموعته الوحيدة (بحيرة المساء) التى صدرت بالكاد قبل شهور من تلك الرحلة، على الناس، يقول لى بعد كل لقاء بمجموعة جديدة من الكتاب العراقيين منهم وغير العراقيين:

 

 دا قاريين كل حاجة كاتبينها يا جدع!

 

فلا تعرف كما هى العادة مع كلمات إبراهيم أصلان، إن كانت هذه مجرد جملة تقريرية أم أنها تعبير عن فرح أو عن دهشة؟ هل هى إعجاب بهم؟ أم تعجب من وقع ما كتبه عليهم؟ أم تراه من وقع ما نكتبه فى مصر على العرب خارجها. كنا وقتها شبابا وكان مجرد انتمائنا ككتاب شبان لمصر، التى كانت حتى ذلك الوقت، وبرغم ضربة النكسة المصمية، فإن مركز العالم العربى، كفيل بأن يحتفى بنا كل العرب، وأن تفتح لنا كل الأبواب. كان إبراهيم قد نشر وقتها مجموعة وحيدة (بحيرة المساء) والتى ظلت مجموعته اليتيمة لسنوات، ولكنها كانت جديرة بكل ما استقبلت به من احتفاء داخل مصر وخارجها.

 

فقد كان إبراهيم أصلان كاتبا متفردا فى لغته ومنطلقاته السردية ورؤيته للعالم منذ بداياته الباكرة فى مطلع الستينيات، لفتت أعماله نظرى من البداية، فكتبت عنه حتى قبل أن يصدر مجموعته اللافتة الأولى (بحيرة المساء) عام 1971 والتى استقطبت اهتمام الواقع الأدبى منذ ظهورها، وأكدت مكانته كواحد من أكثر أصوات هذا الجيل تمكنا وأصالة. وعرفته منذ هذا الزمن البعيد وربطت بيننا صداقة حميمة، وصاحبته فى رحلتنا الأولى إلى العراق عام 1972، وفى رحلته الأولى إلى المغرب فى الثمانينيات، ولنا بها قصص تستحق أن تحكى. ثم رافقته أثناء زيارته للندن لإجراء جراحة القلب الأولى. وأهم من هذه المعرفة الإنسانية الحميمة والتى تحتاج إلى وقفة خاصة بها للكشف عن الإنسان وراء الكاتب الذى حرص على استقلاله وكرامته فى زمن التردى والتبعية والهوان، وخيانة المثقفين لأنفسهم ولقيم شبابهم الثقافى الأولى. أقول أهم من هذه المعرفة الحميمة والمهمة هى معرفتى به ككاتب وكمشروع سردى متميز، كتبت عن عدد غير قليل من أعماله، وهى فى الواقع قليلة.

 

فقد كان أصلان كاتبا مقلا شحيح الإنتاج. إذ لم يكتب فى مسيرة طويلة امتدت لنصف قرن من الزمان غير ثلاث مجموعات قصصية (بحيرة المساء) و(يوسف والرداء) و(حكايات من فضل الله عثمان) وثلاث روايات (مالك الحزين) و(وردية ليل) و(عصافير النيل) ومتتالية سردية (حجرتان وصالة). لكن شحة انتاجه تتناسب تناسبا عكسيا مع غنى هذا الانتاج الأدبى، وعمق معرفته بالواقع والإنسان. فقد كان أصلان، وبسبب معاناته الطويلة من شظف العيش، والعمل لسنوات فى ورديات الليل، وحياته الطويلة فى أحد أفقر أحياء امبابة اكتظاظا وضجيجا، قد جعلته يدرك كم باستطاعة الإنسان أن يخلق لنفسه بأقل الإمكانيات حياة بالغة الخصوبة والتعقيد. لذلك كان أصلان شديد الاهتمام بما يمكن تسميته بشظف الكتابة وشعرية الكثافة والتركيز. أى الكتابة التى لا تزيّد فيها ولا ترهل ولا إطناب. هى كتابة كما قال فى تصدير دال لأحد كتبه، تهتم بالدقة لا بالوضوح. لأن الوضوح سهل وفج، أما الدقة فهى التى تأخذك إلى أعماق الموقف والإنسان معا، لذا بقيت أعماله القليلة منارات مضيئة فى سماء الإبداع العربى، تحمل بصمته الخاصة، وتثرى معرفتنا بالواقع والإنسان.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات