بيندا.. وكيف يخون المثقف؟ - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 11:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بيندا.. وكيف يخون المثقف؟

نشر فى : الإثنين 7 نوفمبر 2011 - 12:35 م | آخر تحديث : الإثنين 7 نوفمبر 2011 - 12:35 م

أنهيت مقالى الأخير عن استقصاءات جوليان بيندا عن خيانة المثقفين، وبعد عرض تعريفه للمثقف، بالتساؤل عما هى تجليات خيانة المثقف وتخليه عن دوره المثالى المرموق وخيانة نفسه وأمته معا؟ حيث يطرح بيندا فى مواجهة المثقف المعارض الذى يعى مسئوليته إزاء ضميره، وإزاء أمته، وإزاء التاريخ الإنسانى، مجموعة أخرى من «المثقفين» بين قوسين لأنهم المثقفون الخونة الذين تنازلوا عن سلطتهم الأخلاقية من أجل ما سماه «تنظيم العواطف أو الأهواء الجمعية». وهو تعبير من عشرينيات القرن الماضى يعادل بمصطلح بدايات القرن الحادى والعشرين إنتاج خطاب تدليسى زائف له أجندات مشبوهة ونشره باسم الحق والثقافة وهو منها براء. فقد كان تنظيم العواطف والأهواء فى أيام بيندا يعنى التعصب والمشاعر العنصرية العدوانية والمصالح الطبقية أو الفئوية الضيقة. أو بمعنى آخر أنه يبيع مملكة السماء، مملكة الحق والقيم السامية والحقيقة، من أجل مملكة الأرض ومتاعها المادى الزائل. وأكثر ما يغيظ بيندا من هؤلاء المثقفين هو أنهم وهم يشترون متاع الأرض الزائل، يموهون على جمهورهم بأنهم يفعلون هذا كله لا من أجل منفعتهم المادية وضعفهم إزاء غوايات المال والجاه، وإنما من أجل الحق والقيم السامية والدفاع عن الوطن.

 

يقول إدوار سعيد الذى نبهنا إلى أطروحة بيندا تلك فى كتابه المهم (تمثيلات المثقف)، والذى يعترف برغم نقده لها، بأن تصوره للمثقف ولدوره لايزال مغويا ومقنعا معا، إن بيندا كان يكتب ذلك عام 1927 وقبل عصر وسائط الإعلام الجماهيرية الواسعة. «ولكنه استشعر باكرا كيف كان مهما بالنسبة للحكومات أن تستخدم كخدّام لها هذا النوع من المثقفين الذين يمكن استدعاؤهم، لا للقيادة وإنما لدعم سياسات الحكومة، ولفبركة ونشر دعايات مغرضة ضد أعدائها وتشويههم، ولخلق خطاب زائف يشوه الوعى على نطاق واسع، وينشر تلك الرطانة المدمرة التى تحدث عن مضارها جورج أورويل فى رائعته (1984)، ويموه على الحقيقة باسم الشرعية أو الاستقرار أو المصلحة العامة أو حتى الشرف الوطنى» وغير ذلك من الأكاذيب التى يشكل نشره المنظم لها فى أجهزة الإعلام اليوم ما كان يدعوه بيندا بـ«تنظيم العواطف أو الأهواء الجمعية». خاصة بعدما أدركت الحكومات الحديثة فاعلية الخطاب الإعلامى فى السيطرة والتحكم، وأن دوره لا يقل أهمية عن دور أجهزة القمع أو أجهزة مكافحة الشغب المختلفة. وأحدث دليل على ذلك تلك القوائم التى تثير لغطا فى مصر الآن، والتى أصدرها مؤخرا وزير الإعلام أسامة هيكل يحدد فيها أسماء مثقفين (وأغلبهم من وجوه نظام مبارك الكالحة) على مقدمى برامج تليفزيونه الحكومى استضافتهم من أجل القيام بالدور المطلوب فيما دعاه بيندا بـ«تنظيم العواطف أو الأهواء الجمعية» بالصورة التى يحتاجها المجلس العسكرى الحاكم فى احتوائه للثورة.

 

هذا المثقف الخائن الذى كانت ضلالته الكبرى فى عصر بيندا أنه يتخلى عن رسالته فى الدفاع عن الحق والحقيقة كى يساهم فى «تنظيم العواطف أو الأهواء الجمعية»، بصورة وصلت إلى حضيض غير مسبوق أثناء احتلال فرنسا؛ أصبح فى عصر إدوار سعيد أداة طيعة فى أيدى سلطة مراوغة تستغله، وتجزل له العطاء مقابل ذلك بالطبع. أو نظام يوظفه للدفاع عن مصالحه، حتى ولو كانت مصالحه، كما كان الحال مع نظام مبارك، تزج بالوطن فى حضيض التبعية، وتجعله الذخر الاستراتيجى لعدونا الصهيونى البغيض. فالمثقف الخائن عند بيندا لا يعلن عن ذلك صراحة، لأنه باع مع شرف الكلمة فضيلة الصدق مع النفس، وإنما يساهم فى صياغة خطاب يستخدم فيه مهاراته وذرابة لسانه فى إلباس الباطل ثوب الحق. وفى التمويه على الوقائع حتى يصبح التدليس بطل الموقف بلا نزاع. خذ مثلا هذا المثقف المعروف الذى أمضى عمره فى خدمة الاستبداد والحرملك، والذى كان آخر وزير ثقافة يقسم اليمين أمام مبارك، بينما الثورة مشتعلة فى ميدان التحرير وفى كل ميادين مصر. إنه لا يملك حتى شرف الاعتراف بأنه قد أخطأ، ولكنه يبرر فى حديث أخير معه، قبول تلك الوزارة الفضيحة بناء على دعوة أحمد شفيق له قائلا «انت عندك مانع تساهم معانا فى انقاذ مصر؟! من يمكن ان يرفض هذه الدعوة؟!» (كذا) ألا يشعر بالخجل وهو يتفوه بتلك الترهات؟ هل يستهين بذكائه أم بذكاء القراء وهو يموه على القارئ بأن إنقاذ النظام الفاسد الذى يرأسه مبارك، هو إنقاذ لمصر، وممن من الثورة التى يزعم فى الحديث نفسه إنه تنبأ بها قبل ذلك التاريخ بيوم واحد. هذا النوع من التدليس من المثقفين الذين تحول معظمهم إلى أعلام زائفة للثقافة فى مصر فى العقود القليلة الماضية هو ما يعنيه جوليان بيندا بالخيانة التى تتجلى فى تخلى المثقف عن دوره كحارس للقيم ولشرف الكلمة، وتحوله إلى كلب حراسة لنظم فاقد عادة للمصداقية والشرعية. والواقع أن تصدر هذا النوع من المثقفين الذين أمضوا عمرا فى خدمة الاستبداد، استبداد نظام مبارك، للمشهد الثقافى الراهن، وتطوعهم الآن لتبرير أى استبداد جديد، مادام سيجزل لهم الدفع ويضمن لهم الوجاهة، هو الداء الكبير الذى تعانى منه الثورة المصرية، والذى لا يقلل ضررا عن غيره من الأدواء الأخرى. لأنهم أدوات الانقلاب على الثورة وخلق خطاب زائف يشيطنها مرة، ويبرر الاستبداد أخرى، ويثبط همم الثوار ثالثة. خطاب يعمل بدأب على تزييف الوعى وتشويه الواقع.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات