ماذا فعلت الأزمة الاقتصادية العالمية بأخلاق وسلوك العرب؟ - أحمد السيد النجار - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 11:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا فعلت الأزمة الاقتصادية العالمية بأخلاق وسلوك العرب؟

نشر فى : الإثنين 29 يونيو 2009 - 10:37 م | آخر تحديث : الإثنين 29 يونيو 2009 - 10:37 م

الأخلاق هى نتاج للظروف الاقتصادية ــ الاجتماعية ــ السياسية، وكانت تغيراتها تتسم تاريخيا بالبطء شأن التغيرات الاجتماعية السلوكية عموما، لكنها أصبحت أسرع نسبيا فى الوقت الراهن مع تسارع وتيرة الحياة والتقدم التقنى. ورغم أن الأخلاق تؤثر على أسلوب مواجهة الأفراد والمجتمعات للتغيرات على جميع الأصعدة، فإنها تتأثر أيضا بهذه التغيرات، التى تعد آلية رئيسية لإحداث التغيير فى الأخلاق. ومن البديهى أن الأزمة المالية والاقتصادية الهائلة التى تجتاح العالم حاليا، والتى طالت الدول العربية بقوة، أثرت بقوة على الأخلاق وعلى سلوكيات البشر والمجتمعات فى بلداننا العربية، كما فى كل بلدان العالم المنفتحة على الاقتصاد العالمى والتى تأثرت بالأزمة.

وإذا كانت التغييرات الأخلاقية والسلوكية على ضوء الأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيراتها، من المفترض أن تتمثل فى المزيد من الرشادة على جميع الأصعدة، أو ظهور نماذج سلوكية قائمة على التخوف من المستقبل والتحوط له، أو تراجع الغرور المالى وما يرتبط به من سلوكيات، أو حدوث حالة من الاضطراب الأخلاقى نتيجة التخوف العبثى من المستقبل مع سقوط امبراطوريات مالية واقتصادية عملاقة بصورة تزرع الشك فى القدرة على مواجهة المستقبل، فإن مثل هذه التغييرات بجوانبها الإيجابية والسلبية، قد تستمر مع البعض، ويمكن أن تكون مؤقتة، وتتم استعادة الأنماط السلوكية السابقة عند انجلاء الأزمة لدى البعض الآخر.

البداية: ادعاء زائف بعدم التأثر بالأزمة رغم الحقائق المعاكسة

الحقيقة أنه مع بدء الإعصار المالى والاقتصادى الأكثر هولا منذ الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن العشرين، فى مركزه بالولايات المتحدة، ثم انتقاله إلى الدول الأخرى بشكل سريع بدا كنيران قنبلة هيدروجينية تسرى فى جبال من القش، كان هناك اتفاق فى مواقف وتصريحات المسئولين الرسميين فى غالبية الدول العربية، على أن بلداننا العربية بمنأى عن الأزمة، وكأننا قلعة محاطة بكرة من فولاذ غير قابل للاختراق أو التفاعل مع كل ما يحيط به، وهو تصور بيروقراطى سمج ومزيف وبليد فى عناده للحقائق، التى أكدت منذ اللحظة الأولى أن الأزمة انتشرت كإعصار أسطورى لا حدود لطاقته، فى كل بلدان العالم المندمجة فى الاقتصاد العالمى بما فيها البلدان العربية، من خلال كل أشكال اتعامل الاقتصادى بين الدول، من التجارة السلعية والخدمية وبالذات الخدمات السياحية، والاستثمارات، وتدفقات الأموال. وبعد العديد من التقديرات الخائبة، أشار صندوق النقد الدولى فى أبريل الماضى فى تقريره «نظرة على الاقتصاد العالمى» (World Economic Outlook، April 2009)، إلى أن التجارة السلعية العالمية ستتراجع بنسبة 26.6% فى عام 2009، بينما ستتراجع التجارة الخدمية بنسبة 18.6% وهو التراجع الأكثر عمقا وضراوة منذ الحرب العالمية الثانية، وهو يؤثر سلبيا على كل القطاعات المرتبطة بتصدير السلع والخدمات، التى تنتجها فى كل البلدان المندمجة فى الاقتصاد العالمى. كما تراجعت حركة الاستثمارات غير المباشرة فورا، بينما ينتظر العالم صدور بيانات حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التى من المؤكد أنها تراجعت بقوة أيضا.

وفى الربع الأخير من عام 2008 الذى تلى انفجار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية مباشرة، تراجعت العائدات السياحية المصرية بنسبة 25% مقارنة بالربع السابق عليه، وبنسبة 10% مقارنة بالربع الأخير من عام 2007، وذلك وفقا للبيانات الرسمية الواردة فى النشرة الإحصائية الشهرية للبنك المركزى. ونظرا لأن هناك العديد من الدول العربية المعتمدة على تصدير خدمات قوة العمل التى تشكل تحويلاتها موردا مهما للنقد الأجنبى، فإن تأثيرات أزمة الركود العالمى وما ترتب عليها من تراجع فى الرواتب فى القطاع الخاص وفقدان أعداد ضخمة من الوظائف تقدر بما يتراوح بين 40 و50 مليون وظيفة فى مجموع بلدان العالم، من المؤكد لكل من يحاول أن يقرأ الواقع بصورة موضوعية، أنها أثرت وستؤثر على تحويلات العاملين فى الخارج، علما بأن تحويلات العاملين العرب الذين يعملون خارج بلدانهم لبلدانهم الأصلية، بلغت نحو 32.5 مليار دولار عام 2007 وفقا لبيانات البنك الدولى. وتلك التحويلات تشكل رافدا مهما لنمو العديد من القطاعات وبالذات قطاعى العقارات والسياحة، وبالتالى فإن تراجعها يؤثر على تلك القطاعات بالتأكيد.

ورغم عمومية تأثيرات الأزمة الاقتصادية، فإن مصر نالها شىء خاص يتعلق بإيرادات قناة السويس، التى تتأثر بصورة طردية بحركة التجارة الدولية، بما يعنى أن تراجع الأخيرة سيعنى حدوث تراجع موازٍ فى إيرادات القناة، فضلا عن التأثيرات السلبية للقرصنة الصومالية فى بحر العرب وخليج عدن على حركة المرور فى القناة وإيرادات مصر منها. وبالفعل تراجعت إيرادات القناة بنسبة 13.4% فى الربع الأخير من عام 2008، مقارنة بالربع السابق عليه.
من ناحية أخرى فإن مستثمرى البلدان الرأسمالية المتقدمة، والذين يضاربون أو يستثمرون أموالهم فى بورصات الدول النامية، يقومون ببيع قسم كبير من محافظهم المالية فى البورصات الأجنبية للحصول على السيولة بغرض إعادة تسوية مراكزهم فى بورصات بلدانهم الأصلية، وهو ما يؤدى إلى حدوث حالة من الاضطراب وتراجع الأسعار، وبالتالى فإنه كان من السهل توقع حدوث انخفاضات كبرى فى بورصات الدول العربية، وبالذات البورصات المنفتحة بلا ضوابط أو قيود مثل بورصة دبى والبورصة المصرية، حيث لا توجد فيهما ضرائب على التعاملات أو الأرباح، ولا توجد أى قيود على تحويل الأرباح للخارج، وتعرضت البورصتان خلال ثلاثة أشهر بعد انفجار الأزمة لتراجع فى القيمة السوقية للأسهم المدرجة فى كل منهما بنسبة 72% فى دبى، ونحو 60% فى مصر.

تحول عملى فى النمط الرأسمالى والسلوكى عالميا.. فأين نحن؟

من المؤكد أن الإقرار العالمى بأن الأزمة الاقتصادية العالمية نجمت عن العديد من العوامل، وفى مقدمتها عدم عدالة توزيع الدخل وما ترتب عليه من ضعف فى الطلب الفعال المحرك للنمو الاقتصادى، وغياب رقابة الدولة على القطاع الخاص مما سهل انتشار الفساد فى الاقتصاد العالمى عموما والأمريكى خصوصا، وتغول الأنشطة الطفيلية، التى أصبحت أضعاف الاقتصاد الحقيقى الصناعى والزراعى والخدمى، لدرجة أن المشتقات المالية بلغت قيمتها نحو 600 تريليون دولار، بينما بلغ الناتج العالمى نحو 60 مليار دولار إذا احتسب وفقا لتعادل القوى الشرائية.. هذا الإقرار، خلق تحولا باتجاه القبول بدور مهم للدولة فى الاقتصاد لتحقيق التوازن الكلى ورفع مستوى التشغيل وإعادة توزيع الدخل بصورة اكثر عدلا، لدرجة أن قمة العشرين التى عقدت فى لندن فى بداية شهر أبريل الماضى اتفقت على أن تقوم الدول المشاركة فى القمة بإنفاق نحو 5 تريليونات (5 آلاف مليار) دولار لإخراج اقتصاداتها والاقتصاد العالمى من الأزمة، أو بمعنى آخر لإنقاذ الرأسمالية العالمية من الانهيار، مع تغيير النمط الرأسمالى فى نفس الوقت من نمط مطلق الحرية وتغيب فيه رقابة الدولة، وتنشر فيه سرية الحسابات، التى تغطى الأموال الناتجة عن الفساد والاقتصاد الأسود، إلى نمط أقرب للنموذج الكينزى، الذى يتضمن تدخل الدولة فى الاقتصاد لتحقيق التوازن الكلى ورفع مستوى التشغيل وتتقدم فيه قيمة الشفافية وعلنية الحسابات. كما أصبحت الأنشطة الطفيلية وبالذات تجارة العملات والمضاربات فى بورصات الأسهم والسلع محل اتهام، باعتبارها مسببا للاضطراب وآلية لتحويل الثروات وليست خالقة للقيمة الاقتصادية.

كما أدى هذا الإقرار العالمى بالعوامل المسببة للأزمة إلى خلق تحول باتجاه تعزيز رقابة الدولة على القطاع الخاص لحماية أموال حملة الأسهم، ولمنع انتشار الفساد المدمر للاقتصاد.

وخلال الفترة الأولى من الأزمة الاقتصادية العالمية، والتى لم تعترف فيها غالبية الحكومات العربية بتأثرها بالأزمة، كان سلوك المواطنين متماشيا مع هذا الاعتقاد الزائف، فلم يتأثر السلوك الاستهلاكى للمواطنين، وبدا الأمر متناقضا بين تصور أننا بمنأى عن تأثيرات الأزمة العالمية، وبين حقيقة أن العالم العربى فى مجموعه من أكثر مناطق العالم اندماجا فى الاقتصاد الدولى حتى ولو من موقع متخلف متمثل فى تصدير المواد الخام الأولية، التى تجعل تجارتنا الخارجية كعالم عربى، توازى نحو 87.6% من الناتج المحلى الإجمالى العربى، مقارنة بنحو 66.3% فى الصين، التى تعد أكبر قوة تجارية فى العالم، ونحو 23% فى الولايات المتحدة زعيمة الرأسمالية العالمية المتداعية، ونحو 51.5% فى المتوسط العالمى.

النهاية: توظيف الأزمة لتبرير فشل الحكومات العربية!

«الطريف» أنه عندما بدأ الحديث الرسمى المتأخر للغاية، عن انتقال تأثيرات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية إلى البلدان العربية‏، لم تتحدث الحكومات العربية عن تعزيز رقابة الدولة، أو منع سرية الحسابات، أو استعادة دور مهم لها فى الاقتصاد للحفاظ على التوازن الاقتصادى الكلى ورفع مستوى التشغيل وتحقيق العدالة الاجتماعية، بل قامت الحكومات العربية «الذكية»، التى نفت تأثيرات الأزمة على بلادنا لوقت طويل، باستخدام الأزمة كشماعة تعلق عليها كل إخفاقاتها وخطاياها. وأصبحت هناك حالة من الإفراط فى الحديث عن تأثيرات الأزمة، أى انتقلت الحكومات من النقيض إلى النقيض. واستخدمت الحكومة المصرية، هذه الشماعة فى تبرير العلاوة الهزيلة، التى قدمتها لـ5.8 مليون عامل وموظف لدى الدولة، والتى بلغت مخصصات تمويلها خلال العام 2009، نحو 1.8مليار جنيه، بينما منحت لحفنة من المصدرين القريبين من ذوى النفوذ السياسى، نحو 4 مليارات جنيه من الدعم، فضلا عما تمنحه لشركات الأسمنت والحديد والأسمدة من دعم هائل على الغاز والمازوت والكهرباء رغم أنها تبيع إنتاجها بالأسعار العالمية، والدعم الضخم الذى يبلغ نحو 15مليار جنيه سنويا، والذى تقدمه مصر لكل من إسبانيا وإسرائيل والأردن من خلال بيعهم الغاز الطبيعى بأقل من خمس سعره فى الأسواق العالمية.

سلوك واقعى للمواطنين

مقابل سلوك الحكومات البليد والمراوغ فى البداية، ثم المستغل للأزمة لتعليق الإخفاقات عليها، جاء سلوك المواطنين أكثر واقعية ومرتبطا بالتغيرات الفعلية فى دخولهم، مع حدوث بعض الظواهر الإيجابية مثل ارتفاع الميل للادخار والتراجع النسبى للاستهلاك الترفى.

ولأن انخفاض أسعار النفط بعد انفجار الأزمة العالمية، كان سريعا وهائلا، حيث تراجع من نحو 147دولار للبرميل فى بدايات يوليو 2008، إلى نحو 35 دولارا للبرميل من سلة خامات أوبك بعد ثلاثة أشهر من بدء الأزمة، فإن أسرع التغيرات فى سلوك الدول والمواطنين، حدثت فى البلدان العربية المصدرة للنفط فى منطقة الخليج العربى، حيث أثار هذا التدهور السريع والحاد فى أسعار النفط، المخاوف من عودة سنوات العسر الطويلة، التى امتدت من عام 1986 حتى عام 1999، والتى بلغ متوسط السعر الاسمى لبرميل النفط خلالها نحو 17 دولارا للبرميل.

وفى ظل هذه المخاوف بدأت الدول ورجال الأعمال فى تأجيل كم هائل من المشروعات العقارية الفاخرة لدرجة السفه، والتى بلغت قيمتها مئات المليارات من الدولارت. وتراجع الاستهلاك الترفى المفرط فى المبالغة والقائم على التفاخر الاجتماعى الأخرق بالنسبة للأفراد، والقائم على الوجاهة الإقليمية الجاهلة بالنسبة لبعض الدول. وعلى سبيل المثال كان هناك مشروع فى إحدى الجزر التابعة لدولة عربية خليجية كلفته 37 مليار دولار لإقامة 29 فندقا بطاقة 7 آلاف غرفة وبمستوى 7 نجوم، وثمانية آلاف (8000) فيللا وثلاثة مراسى، وتسعة آلاف يخت، ومنتجعات ساحلية، ونحو 38 ألف شقة فاخرة. وفى نفس الدولة العربية الصغيرة التى لا يتجاوز تعداد مواطنيها (بدون حساب العاملين الأجانب وأسرهم)، نحو 800 ألف نسمة، هناك مشروع آخر تكلفته 40 مليار دولار، لإقامة فنادق ومراكز للتسوق ومساكن فاخرة ونواد للجولف والبولو والخيل وحلبات لسباق السيارات ومراسى لليخوت. وفى نفس الدولة بدأت خدمة نقل الركاب من المطارات إلى الفنادق جوا. ومن نفس الدولة انطلقت استثمارات إقليمية مخصصة للطبقة العليا وللاستثمارات السياحية الفاخرة، وساهمت فى إشعال أسعار الأراضى والعقارات فى بلدان عربية أخرى، وفى جعل السكن حلما مستحيلا بالنسبة للفقراء. ومن بين هذه الاستثمارات، تم الاتفاق قبل انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، على إقامة مشروع عقارى وفندقى سياحى ضخم على مساحة 170 ألف قدم مربع فى أربيل بالعراق، بكلفة مبدئية قدرها 15 مليار دولار يتم ضخها واستكمال المشروع خلال 10 سنوات. وتم هذا الاتفاق مع «حكومة» كردستان العراق بما يكرس انفصالها عن الوطن الأم. وهذه النماذج متكررة فى كل دول الخليج فى ظل الثراء الهائل الذى حققته بسبب الطفرة النفطية الراهنة. وبدلا من البناء فى الأراضى الصحراوية الشاسعة فى بلدان الخليج وجدنا قبل الأزمة، أنماطا غريبة من البناء فى البحر بعد ردمه وكأننا فى هولندا المحدودة المساحة، والتى استغلت كل شبر من أراضيها ودفعتها الحاجة لردم البحر.

وبدأت فى بلدان الخليج موجة من تخفيض أجور العاملين فى القطاع الخاص والاستغناء عن قسم مهم من العاملين، وتراجعت نزعة العنجهية المالية الجوفاء، التى كانت قد تفاقمت لدى إحدى الإمارات الصغيرة، التى تصورت نفسها نموذجا اقتصاديا عالميا، فى حين أنها لم تكن سوى ملاذ سيئ السمعة للراغبين فى التهرب الضريبى وغسيل الأموال. كما تراجعت نزعة التعالى المالى المرتبط دائما بمحدثى النعمة أو بالذين حققوا ثرواتهم بدون عمل أو علم. كما ظهرت تغيرات فى نمط المعيشة، وبالذات فيما يتعلق بالسياحة فى الخارج. ومن المتوقع أن تظهر البيانات الرسمية عندما تصدر، تراجعا مؤثرا فيها وتغييرا مهما فى المقاصد السياحية للسائحين العرب من المناطق العالية التكلفة إلى مناطق أقل تكلفة.

ولأن الأزمة طالت جميع الدول العربية المصدرة والمستوردة للنفط، فإن التغييرات السلوكية شملت الجميع أيضا، ففى باقى الدول العربية سادت حالة من التدبير والاقتصاد فى المصروفات لدى الأسر، التى ترتبط دخولها بالقطاعات التى تضررت بسبب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية مثل قطاعات السياحة والعقارات والبورصة والأنشطة التجارية والمالية المرتبطة بالخارج. كما تغيرت أنماط إنفاق العاملين بالخارج وأسرهم بشكل واقعى مرتبط بمن تراجعت دخولهم، وليس بمن يتوقعون حدوث ذلك. كما ظهرت حالات من الجنوح والشطط الجنائى لدى بعض صغار ومتوسطى المستثمرين فى البورصة ممن أغراهم الربح بدون عمل، وعصفت الأزمة المالية والاقتصادية وانهيارات أسعار الأسهم، التى ترافقت معها، بمدخراتهم وأصولهم المالية وتركتهم فى مهب الريح، فظهرت بعض حالات الانتحار الفردى أو حوادث عنف أسرى أو عنف ضد الغير، ووصل الأمر بأحد المستثمرين الصغار فى البورصة المصرية إلى قتل أسرته بأكملها ثم انتحاره فى السجن عقب الحكم عليه بالإعدام، وذلك بعد خسارته أمواله فى البورصة، التى كان يضارب فيها دون أن يملك ثقافة الاستثمار فيها، حيث كان مدفوعا فقط بثقافة رديئة توسعت بشكل سرطانى فى البلدان العربية، وهى ثقافة الربح بدون عمل.
ورغم أن انخفاض أسعار السلع فى الستة أشهر التالية لانفجار الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، كانت تفرض حدوث انخفاضات موازية فى الأسعار فى البلدان العربية، فإن السلوكيات الاحتكارية للمنتجين، عرقلت حدوث هذا التطور الطبيعى، خاصة أن ازدواج السيطرة على السلطة والثروة فى الكثير من البلدان العربية ووجود حكومات رجال أعمال بصورة مباشرة، كما فى مصر، ضمنت حدوث تواطؤ حكومى مع المحتكرين على حساب الشعوب ومصالحها. ورغم أن الرأسمالية التجارية أصبحت أكثر تساهلا فى عمليات البيع الفورى والتقسيط للسلع المعمرة والعقارات، لإعادة الحياة والحيوية لرأسمالها المجمد فى تلك السلع، التى تراجع الطلب عليها بعد الأزمة، إلا أنها ركزت بصورة أساسية على آجال وطريقة السداد وليس على إحداث تخفيض جدى للأسعار والقبول بمعدلات ربح معتدلة بالتوازى مع حركة الأسعار ومعدلات الأرباح العالمية.

وفى النهاية فإن التغيرات فى أخلاق وسلوك الأفراد والدول فى الوطن العربى الكبير، يمكن أن تكون مؤقتة ومرتبطة بعنفوان الأزمة، ليعود كل شىء إلى مساره القديم بعد بدء انقشاعها، الذى تلوح تباشير حدوثه فى نهاية العام الحالى، بما يطرح دورا مهما للنخبة الثقافية العربية للتأكيد على ضرورة التمسك بالسلوكيات الإيجابية، التى ولدتها الأزمة مثل تحسن الميل للادخار، وتقليص الاستهلاك الترفى القائم على التفاخر الاجتماعى المقيت، والتواضع المالى والأخلاقى عموما، والتحسب والتدبير المنظم للمستقبل بدلا من العشوائية فى الإنفاق، وإعادة الاحترام لقيم العلم والعمل، وازدراء الأنشطة الطفيلية المثيرة للاضطرابات والتى لا تخلق أى قيمة مضافة حقيقية بل تؤدى لتحويل الثروات من شخص لآخر فى عمليات ينطوى الكثير منها على التحايل بالذات فى أسواق العملات والبورصات. كما أن النخبة الثقافية العربية مدعوة أيضا لقراءة وتحليل ونشر الخبرات العالمية المرتبطة بالأزمة، والتى تشير إلى إقرار عالمى بأهمية دور الدولة فى الاقتصاد، ودور العدالة فى توزيع الدخل فى تفادى الأزمات، لأن الأمم القوية والمفعمة بالحيوية هى التى تستفيد من الأزمات ويمكنها قراءة خبراتها المحلية والعالمية لجعلها عاملا مهما فى تطوير سلوكياتها وفى تفادى التعرض لمثل هذه الأزمات مستقبلا. 
 

أحمد السيد النجار رئيس تحرير تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية بمركز الأهرام للدراسات
التعليقات