وعدت إلى القاهرة بعد غياب أسابيع. عدت فى هذه الأيام ــ أيام نهايات العام ــ التى يتجه الذهن فيها إلى تلخيص الأحداث واستنباط المعانى ورصد كشوفات الحساب. وفى العودة أيضا ترى عيوننا التفاصيل التى نضطر إلى التعود عليها سريعا لكى نستطيع الاستمرار فى حياتنا اليومية والتى ربما كان من المفيد أن نرصدها من حين إلى حين.
فى مطار القاهرة الدولى ــ الأجانب القادمون ــ وهناك فعلا عدد من الأجانب قادمون ــ يريدون شراء التأشيرة وتغيير العملة. فى القاعة ثلاثة كاونترات لثلاثة بنوك وواحد فقط هو الذى يعمل.
فى مطار القاهرة الدولى ممنوع أن تصعد السيارات لتلتقط أصحابها من أمام أبواب قاعة الوصول، فعليك أن تجاهد بحقائبك عبر القاعة، وهبوطا على السلم المتحرك، ومرورا فى نفق لتخرج إلى موقف السيارات. ليس أعظم انطباع عند الوصول، ولا يُحَسِّن منه التماثيل الرديئة جدا (المصنوعة أمس الأول الله أعلم فين) الزاهية جدا التى ترحب بك فى المطار. يعنى فى البلد الذى اخترع التماثيل، فى بلد التماثيل الأصلية التى تتفاخر متاحف العالم بمقتنياتها القليلة منها، نضع نحن مسوخا تقابل زائرينا فى المطار بابتسامة عبيطة، وتعلو هذه المسوخ لافتات ضخمة تكرر وتكبر ما تفوه به رؤساء الغرب فى لحظة أُخِذوا فيها على غرة من إشادة بشباب مصر وكيف أن على العالم أن يتعلم منهم. اللافتات ضخمة تخزق العين، والشباب معظمهم فى السجون أو يجرون وراء من فى السجون وأوباما وبرلسكونى لا يعتد بكلامهم أصلا والثورة والشباب لا يحتاجون ولم يحتاجوا يوما صكوكا منهم وهذا من حسن الحظ بما أنهم يرسلون الأباتشى والأموال للحكومة هنا فى أحلك لحظات تعديها على قيم ومفاهيم أخذت من البشرية راقات للتوصل إليها. اللطيف أن نفس النظام الذى يدجن القانون ومفهوم العدالة ليحبس الشباب وينكل بهم هو من يأخذ مقولات الإشادة هذه ويطبعها ويكبرها ويلصقها فى وجه القادم فى المطار. إعجازنا الجديد: تفريغ اللغة والرمز من أى علاقة لها بالواقع ومن أى كياسة فى المطلق.
فى شارع الهرم: بطول الشارع ناس تحاول أن تعبر الطريق. الشارع فيه أسواق ومدارس ومستشفيات وفنادق، الحركة فيه دائمة وليست هناك أى آلية واضحة رسمية لعبور المشاة. ولذلك يقوم الكل بذلك التدريب الراقص الذى أتقناه دونا عن شعوب الأرض والذى ــ شخصيا ــ أعتد به وأحبه وأرى فيه عبقرية مصرية فى التعايش والتوسيع لبعض والثقة فى هذا التوسيع الذى يجعل تخطى الظرف والاستمرار فى الحياة أشياء ممكنة. يعنى هذه السيدة التى تحتاج لأن تعبر الشارع لكى تعود إلى منزلها، هى لن تقف متحيرة على الرصيف ترقب الكتل المعدنية التى تمرق أمامها، تكمن بكل كتلة إمكانية القتل الفورى، بل ستنتقى اللحظة المناسبة حسب تشكيل وأبعاد الكتل القادمة وستخطو إلى الطريق ناظرة فى عيون من يمسك بعجلة القيادة فى أقرب كتلة لها، واضعة فيه ثقتها ومودعة عنده، للحظات، حياتها وصحتها ومستقبل أولادها. وسيستجيب السائق لخطوات السيدة فيبطئ من سرعته وربما يغير قليلا من توجه عجلة القيادة لكى تمر الكتلة المعدنية إلى جانب السيدة وليس فوقها. وفى الدقائق الذى يستغرقها عبور هذه السيدة لهذا الطريق ستقوم ثلاث أو أربع سيارات بهذه اللعبة معها، وستلعب كل سيارة هذه اللعبة مع عشرات المشاة الذين يتقاطع طريقهم مع طريقها أثناء اليوم. ولهذا، حين أرى شابا يرفع يده لسيارة ويخطو إلى الطريق والسيارة لا تهدئ من سرعتها ولا تغير من مسارها فيضطر الشاب إلى القفز متراجعا ثم يمد يده من نافذة السيارة ويمسك بذراع السائق الذى يتوقف ليتشاجر معه أجدنى تماما فى صف الشاب المعترض؛ الأرض الثابتة الوحيدة الباقية لنا هى تلك الأعراف التى تتبدى فى ممارسات مثل عبور الشارع، والتى فى مضمونها اعتراف بأننا، بشكل ما، كيان واحد، سلامة الجزء منه مسئولية الكل، وسلامة الكل مسئولية كل فرد. وفى الحقيقة، وفى اللحظة التى تكتب فيها أصابعى هذه الكلمات، أسمعك يا قارئى تقول، إن هذه الأرض لم تعد ثابتة. معك حق. وأليس هذا سببا للتمسك بكل مساحة متبقية منها؟ وإن كانت حتى سنتيمتر واحد مربع فهى تنفع كخميرة للمستقبل.
فى شارع الهرم: هل رأيتم بلدا، عنده آثار يتوق العالم كله لرؤيتها، منها أثر واحد يعرفه ويحفظ شكله أطفال العالم أجمع، أثر هو الكيان الوحيد فى الدنيا الذى يجود باسمه على شكل هندسى معمارى، له عمر يقاس به الزمن، له طريق مستقيم من عاصمة البلاد، تمشى فيه (تلعب مع المشاة والميكروباصات لكن هذا موضوع آخر) فيظهر لك الأثر فجأة فى البعد ككيان أسطورى يغلفه الجلال والغموض، تقترب وتقترب تدريجيا وانت لا تكاد تصدق ما ترى، تعرف أنك لم تستوعب بعد حجم هذا الكيان الذى يلوح أمامك، ولم تبدأ فى إدراك معناه، ولا تعلم ما الأفكار والمشاعر التى سيطلقها بداخلك، وفجأة تنحرف السيارة بك إلى اليمين ويختفى الأثر وتجد نفسك شبه متوقف وسط عوادم السيارات والأتوبيسات والشاحنات، ثم تجد نفسك تلف وتدور بطيئا فى مواقف ميكروباصات فتقوم بنصف دائرة غريبة تعيدك مرة أخرى إلى الطريق الرئيسى بعد أن ضاع كل الترقب الروحى الذى أشعله فيك الأثر. تبدأ فى صعود الهضبة فيقوم فى وجهك حاجز حديدى ضخم أسود ثقيل براق وسيارات ورجال وجو أمنى بامتياز والرجل على الحاجز يميل عليك ويسألك «على فين؟» فتجيب «الهرم» فيبتعد ليتركك تمر. شوف العبث! حاجة غريبة جدا! أين يمكن أن تذهب من هنا سوى إلى الهرم؟ رجل الأمن لم يفعل أى شىء غير أنه سأل سؤالا أبله ــ ولكن لا وقت عندك لتأمل هذا فقد انقض على سيارتك خمسة رجال يخبطون عليها ويلوحون ويصيحون بما معناه أنك غير مسموح لك بالمرور بالسيارة لأبعد من هنا وعليك أن تترك سيارتك عندهم وتصعد إلى الهضبة راكبا كاريتة/ حصان/ جمل/ حمار تؤجره أيضا من عندهم. فإن كنت متمرسا وجامد القلب تدوس بنزين (فهنا لا تنطبق أعراف رقصة عبور الشارع) وتمر من خلالهم لتدخل إلى المرحلة الرابعة من المعوقات وهى منطقة استقبال الأثر وهنا تجد نفسك تنتفض فى سيارتك المضطرة لأن تلف فى دائرة واسعة تعب المسئولون أنفسهم ورصفوها بنوع من الحصى ــ ربما على اعتبار أن الطرق فى أيام الملك خوفو لم تكن مسفلتة ــ والحصى يرجرج عظامك تماما إلى أن تتوقف عند شبابيك التذاكر. الآن تنتقى طابورا وتقف فيه. طبعا تذاكر الأجنبى أغلى بكثير، وهذا حق ولا اعتراض عليه، ولكن أنت المصرى إن كان معك ضيف أجنبى وأعلنته (اتنين مصريين وضيفة أجنبية من فضلك) فعليك أن تثبت أنك مصرى ولست أجنبيا متخفيا! تبرز البطاقة وتشترى تذاكر الهضبة وتطلب تذاكر دخول الهرم فتعرف أن تذاكر دخول الهرم من «الشباك اللى هناك بس». أى أن السواح بعد أن يتوزعوا على الخمسة شبابيك ويشتروا تذاكر الهضبة يتجمعون فى طابور واحد لتذاكر دخول الهرم. وليتهم لم يفعلوا فقد عبر الكل تقريبا عن خيبة الأمل لما دخلوا الهرم ومشوا فى ذلك السرداب الذى يلزمك بالانحناء ليجدوا فى النهاية شاشات عرض وأجهزة تكييف متهالكة وحفرا حديثة على الجدران ولا شىء آخر.
فى الحقيقة بدت التجربة كلها كتمرين على الإحباط وإغلاق أبواب التطلع أو السعادة. لا أتحدث عن نفسى، فالهرم فى وجدانى محبته ورهبته راسخة منذ كنا نصعد عادى ونركن فى الصحراء إلى جواره عادى ونلعب ونحكى فى ظله ثم ندخل إلى «استراحة الملك» التى أصبحت كازينو للشعب ليشرب أهلنا الشاى ونحن الأطفال الليموناده. لا أتحدث عن نفسى بل أتحدث عن خبرة السائح الذى لا تمل الحكومة من التلويح برغبتنا فيه واحتياجنا إليه وتنفق الملايين على الدعاية الموجهة إليه فى بلاد الغرب ثم ــ حين يأتى ــ تمرره فى مراحل متلاحقة من الإحباط وخيبة الأمل سيخبر بها زملاءه وأقرانه من السياح الممكنين فلن يأتوا.
علاء عبدالفتاح وأقرانه يتحدثون كثيرا عن التدفق: تدفق المعلومات، تدفق الطاقة، تدفق الأفكار ــ التدفق كسمة أساسية للحركة فى وقتنا هذا. وحين أنظر حولى أرى ــ ليس فقط انعدام التدفق بل أكاد أقول كراهية التدفق. السمة الغالبة التى تواجه عيونك وإحساسك بعد أسايبع غياب هى العرقلة: الجدران والحواجز والأسمنت والحديد. سيارات الترحيلات. الطرق التى تلف وتدور بك وكأن إشارات التقاطع أو الدورانات أو فتحات اليو تيرن أشياء نادرة يجب عدم التفريط فيها. البطء. وإن كنت أنا أشعر بهذا فما بالك بالشباب؟ ربما لهذا يحبسونهم ظلما؟ فى محاولة عجوزة لعرقلة التدفق؟ لن تجدى، فنحن فى بداية العام السادس عشر من القرن الواحد والعشرين والزمن نفسه فى صف الشباب.