الحلقة القبل الأخيرة
لم يبد على الرئيس أن لديه أى رؤية أو خطة اقتصادية سوى الاقتراض من الهيئات الدولية والتسول من حكومات الخليج، وبالقطع لم يُظهر أى سياسة أو توجه اقتصادى يبشر بانطلاق البلاد نحو العدالة الاجتماعية التى كانت المطالبة بها إحدى المحركات الكبرى للثورة. وأثناء السنة الوحيدة لحكم الدكتور مرسى، قام الناس فى مصر بأكثر من سبعة آلاف احتجاج ومظاهرة، ولم تعرها حكومته أى انتباه.
بدأ مجموعة من الشباب فى إطلاق حملة أسموها «تمرد»؛ ورقة مطبوعة تقول: «أعلن أنا الموقع أدناه بكامل إرادتى، وبصفتى عضوا فى الجمعية العمومية للشعب المصرى، سحب الثقة من رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسى عيسى العياط، وأدعو إلى انتخابات رئاسية مبكرة وأتعهد بالتمسك بأهداف الثورة والعمل على تحقيقها ونشر حملة تمرد بين صفوف الجماهير حتى نستطيع معا تحقيق مجتمع الكرامة والعدل والحرية». وأخذ الناس فى طباعة أعداد من هذه الورقة والنزول بها إلى الشارع طلبا للتوقيعات، وانتشرت الحملة بشكل مذهل.
كانت الأحداث الدموية فى سوريا تتفاقم، وتتكدس جرائم النظام السورى ضد المواطنين، وفى مؤتمر شعبى كبير جلس الدكتور محمد مرسى محفوفا بـ «أهله وعشيرته» بينما تبارى الخطباء من المنصة فى خطابات كراهية وتحريض ضد المسلمين الشيعة ــ لم يبد منها الرئيس أى ضيق بل تكلم هو فاستحث الشباب ليخرجوا للجهاد، كما أسماه، فى سوريا. وبعدها بأيام قليلة قام الأهالى فى «زاوية أبو مسلم» فى دكرنس الجيزة فقتلوا اثنين من جيرانهم واثنين من ضيوفهم ــ كلهم من الشيعة. زادت الاعتداءات على الكنائس وعلى المواطنين الأقباط فى مدن المحافظات، ولأول مرة فى تاريخها الممتد تعرضت الكاتدرائية المرقسية ــ مقر الكرسى البابوى للكنيسة القبطية ــ للهجوم ولقنابل الغاز.
الغاية والهدف من النظام الديمقراطى هو أن يُمَكِّن الناس التى سوف تتأثر من قرار ما من أن تتخذ هى هذا القرار، أى أن القرارات التى تؤثر فى حياة الناس يتخذها الناس. رأى الشعب الرئيس يقود البلاد ــ بدون قرارهم ــ نحو كوارث محققة. وفى الأيام الأخيرة من حكمه، حين عَيَّن الرئيس ستة عشر محافظا جديدا تربطهم بجماعة الإخوان روابط وثيقة، منعهم المواطنون من الوصول إلى مكاتبهم الجديدة. نزلت كوادر مسلحة لجماعة الإخوان لمواجهة المحتجين وقُتِل مواطنون فى اشتباكات فى الشوارع.
أصرت الجماعة على أن المصريين حين انتخبوا الدكتور محمد مرسى رئيسا، دخلوا معه فى تعاقد لا يمكن إلغاؤه لمدة أربعة سنوات. أما المحتجون فكان موقفهم أن الرئيس تم انتخابه على أساس تعهده بالالتزام بأهداف الثورة، ووعود أخذها على نفسه علانية، وأنهم لا يرونه يتجه إلى تنفيذ أى منها.
لكن الدستور الذى نتج عن حكومة الإخوان لم يتضمن أى إجراء دستورى للتخلص من رئيس الجمهورية، ولذا فقد ابتكر الشعب أسلوبا: ملايين التوقيعات على استمارة «تمرد»، وربما خمسة وعشرين مليون مواطن خرجوا إلى شوارع مصر فى ٣٠ يونيو.
فى ٣٠ يونيو، عبر القطر كله، خرج المصريون فى تظاهرات هائلة. مرة جديدة تصدرنا المشهد العالمى. كم من الملايين كنا؟ هل يعد هذا أضخم تحرك بشرى عرفته الإنسانية؟ كيف يقارن بأحداث العام ١٩١٧ فى روسيا؟ يقال الآن إن أجهزة المخابرات والقوات المسلحة كانت على اتصال بمهندسى «تمرد» منذ مرحلة مبكرة فى الحملة، وأنهم عبدوا لها الطريق، ولكن مما لا شك فيه أن الحملة كانت تعبر بالفعل عن غضب عميق وجارف يجتاح البلاد.
جلستُ على الرصيف، بعد ظُهر ذلك الأحد، فى تقاطع روكسى فى مصر الجديدة، أرقب المسيرات تأتى من أحياء القاهرة متجهة إلى مقر محمد مرسى فى قصر الاتحادية. الناس على أقدامهم؛ سيل يتدفق فى الطريق الواسع، ساعة وراء ساعة وراء ساعة لا يتوقفون. وفى المحافظات امتلأت شوارع المدن بالناس، والتحرير أيضا كان ممتلئا. مرة أخرى نزل المصريون إلى الشوارع ليرفعوا رئيسا من على كرسى الرئاسة.
لكن الفروق بين يوليو ٢٠١٣ ويناير ٢٠١١ واضحة. الثورة التى رفعت شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية هى ثورة على الفساد والعنف والظلم. فى الثورة الأولى كان الحزب الحاكم، الحزب الوطنى الديمقراطى، هو العدو المعروف والمعلَن، ومعه أيضا مؤسسة الأمن بأجهزتها. أما القوات المسلحة فكان موقفها غير واضح، وكنا نستطيع، بتفاؤل قلوبنا، أن نأمل أنها ستحمى الثورة وتحمى البلاد فى المرحلة الانتقالية الضرورية بعد خلع مبارك.
الشهور التسعة والعشرون بين ذلك الوقت ويومنا هذا علمتنا الكثير. نعرف الآن أن مؤسساتنا جوفاء مخربة، وأن قطاعات كبيرة من نظام العدالة عندنا فاسد ومنحاز. رأينا إفلاس النخبة السياسية المعارضة لمبارك. أما القوات المسلحة، تحت قيادة مجلسها الأعلى، فقد بَيَّنَت بوضوح اهتمامها بشئون البزنس الخاص بها واحتقارها القاتل للشعب. كانت هذه دروس صعبة، تعلمناها فى فقدان الشباب لأصدقائهم وأرواحهم وعيونهم، فكانت الثورة الثانية: التخلص من حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
فى يونيو ٢٠١٢، حين كان علينا أن نختار رئيسا إما من جماعة الإخوان المسلمين أو من البقايا العسكرية لنظام حسنى مبارك، كتبت: «الثورة سوف تستمر لأن النظام القديم، وكذلك تيار الإسلام السياسى فى شكله الحالى ــ أيا منهما لن يُقَرِّب الناس مما يطلبون، من حقهم فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. أيا منهما لن يأتى بالعالم الذى حلم به الألف ومائتى شهيد فقتلهم النظام، ولن يأتى بحق الثمانية آلاف الذين أصاب أجسادهم، ولن ينصف الستة عشر ألف الذين وضعهم أمام محاكم عسكرية» (الجارديان، ١٧ يونيو ٢٠١٢). وبعد أسبوع، وبعد أن استمعنا إلى الوعود التى قدمها الرئيس محمد مرسى، سمحت لنفسى ببعض الأمل: «ربما، ربما نكون قد انتخبنا رئيسا نستطيع أن نسانده أو نعارضه بشكل شريف ــ وبدون أن نُضرب بالنار» (الجارديان، ٢٥ يونيو).
لم يتوقف ضرب النار حين تخلصنا من المجلس العسكرى. ولم يتوقف التعذيب. جابر صلاح «جيكا»، محمد كريستى، الحسينى أبو ضيف، محمد الجندى، محمد الشافعى ــ فقط بعض من شبابنا الذين فقدناهمو فقدتهم البلاد حين استشهدوا على يد نظام محمد مرسى.
ازدادت الأحوال الاقتصادية سوءا، وتفوق مرسى على مبارك فى محسوبية نظامه وانعدام شفافيته، وإلى جانب هذا كان نظاما منخفض الكفاءة بدرجة خطيرة، وكان أى استعراض لأحوال سيناء، أو لعلاقاتنا فى أفريقيا، أو موقفنا من سوريا ينذر بمصائب قادمة. ولذا فقد وصلنا، بعد عام من رئاسته، وفى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ إلى الثورة الثالثة.