نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالا للكاتب مسعود الرمضانى تناول فيه التحديات التى تواجهها حقوق الإنسان بسبب العولمة، وحسابات الدول الكبرى التى عززت من قوة بعض النظم الديكتاتورية، مشيرا إلى بعض الدروس المستفادة من الثورة التونسية التى آمنت بأن حقوق الإنسان لا تتجزأ، أى شمولية حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية والبيئية... نعرض من المقال ما يلى:
الاتفاق اليوم هو أن حركة حقوق الإنسان تواجه تحديات عديدة لم تعرفها منذ عقود، وذلك لأسباب يصعب حصرها، لكن يمكن أن نذكر منها بالخصوص.
ضعف الآليات الدولية أمام هجمة النظم الديكتاتورية التى اكتسبت مناعة لم تنعم بها منذ عقود وذلك بسبب حسابات الدول الكبرى، التى أثرت مصالحها الجيو ــ استراتجية والاقتصادية الآنية على المبادئ الحقوقية العامة وصعود التيارات الشعبوية المتعالية على كل المؤسسات الديمقراطية، إضافة إلى امتلاك الأنظمة الديكتاتورية لوسائل المراقبة التكنولوجية، مما سهل ترصّد النشطاء ومزيد التضييق عليهم، تونس التى عرفت، بعد ثورة يناير 2011، انتقالا ديمقراطيا مهمّا على مستوى الحقوق المدنية والسياسية رغم الهنّات والعثرات الكثيرة، ليست استثناء، حيث شهدت منذ 25 يوليو 2021، تراجعا كبيرا على مستوى حقوق الإنسان بسبب ضرب الضمانات المؤسساتية ومحاولات السلطة الهيمنة على القضاء والتضييق على الإعلام وحرية الرأى والتعبير واستهداف الأحزاب السياسية أمام تردد وارتباك المنظمات الحقوقية، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التى ما انفكت تزداد صعوبة يوما بعد يوم، وطبعا الحركة الحقوقية ليست مطالبة فقط بالاحتفال بذكرى 10 ديسمبر والتركيز على أهميته التاريخية بالنسبة للإنسانية جمعاء، والاكتفاء بالبيانات التذكيرية العامة، بل هى مدعوة إلى مراجعة أولوياتها وتحديد موقعها من المتغيرات السياسية وضبط استراتيجيات واضحة وبعيدة المدى حتى يكون للحقوق الإنسانية بجميع أبعادها المدنية والسياسية والاقتصادية والبيئية قيمة ونجاعة، وحتى لا تظل هذه الحركة أسيرة ملاحقة الأحداث عوض الفعل فيها ومحاولة توجيهها، بما يخدم الإنسانية.
●●●
أحدثت العولمة تغييرات مهمة فى العلاقات الإنسانية وخاصة عبر تركيز المعسكر الغربى، بعد انهيار جدار برلين وتراجع حلف وارسو، على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، كمكونات أساسية فى النظام الرأسمالى الجديد ذى القطب الواحد، لكنها أنتجت مفارقة تكاد تعصف بأهم مكاسب الحداثة والتنوير، إذ بقدر تسهيلها انسياب العلاقات التجارية والسلع، بقدر ما همشت المبادئ الإنسانية وعمقت التفاوت الاجتماعى والفوارق الثقافية بين المجتمعات، وقد أفرز تنميط قوانين السوق وتوحيد القيم الرأسمالية والسعى للربح السريع من ناحية والانغلاق والتنمر على الثقافات الأخرى، مع ما يرافق ذلك من ظواهر العنصرية والكراهية للأجانب، خطابات وممارسات متطرفة تهدد المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان فى أعرق الديمقراطيات، ولا أدل على ذلك من تنامى شعبويات طفيلية تعادى كل المؤسسات وترفض التنوع والتعدد.
لذلك فإن الخطر الذى يهدد حقوق الإنسان اليوم هو التأكيد على الهوية الخصوصية وإبرازها، مما يحصر مفاهيم الأبعاد الحقوقية فى زوايا وطنية ودينية وعرقية ضيّقة ومعادية للاختلاف، وهو ما يتعارض مع عالمية وشمولية الحقوق وتجاوزها لكل الانتماءات الضيّقة، بما أنها تتعلق بالإنسان وكرامته وتسمو على أى من القوانين الوضعية الأخرى، وهذا ما أكده المؤتمر الدولى لحقوق الإنسان المنعقد بفيينا سنة 1993 فى تقريره الختامى من أن جميع حقوق الإنسان عالمية ومترابطة وغير قابلة للتجزئة.
●●●
بعبارة أخرى، هناك هوة ما انفكت تتسع وتشى بالخطورة، بين العولمة ببعدها الاقتصادى والمالى وبين كونية مبادئ حقوق الإنسان، فالأولى قائمة على تمدد السوق والتطور التقنى وانتقال المعلومات والأموال وفتح الحدود أمام البضائع، وهى متوترة وعدائية أحيانا والثانية قائمة على مبادئ ثابتة منفتحة على الخصوصيات وساعية إلى احترامها وتثمنيها، لأنها ذات «صفة كونية وتعنى بالجنس البشرى كافة» «كما يقول الفيلسوف البلغارى Todorov، ولأنها كذلك فقد» ولدت منها ضروب من الكفاح لا زالت متواصلة إلى اليوم: الكفاح من أجل أن تكون النساء مساويات للرجال أمام القانون وأن يلغى الرق وألا يقع تشريع أبدا للتصرف فى حرية أى كائن بشرى».
والخطر اليوم أن كل المبادئ التى اتفقت عليها الدول وضبطت القوانين الإنسانية لتثبيتها، وهى تستحضر جنون الحروب المدمرة التى خاضتها البشرية، هى اليوم مهددة بالنسيان والتلف، أمام صلف الديكتاتوريات السياسية والمالية وضعف أليات الحماية.
الثورة التونسية: كانت معركة حقوقية
لأنها جاءت استجابة لتلك المبادئ والقيم الإنسانية الكونية، فقد لخصت شعاراتها أركان المواثيق الدولية بأبعادها المدنية والاجتماعية وكانت منعرجا مهما، ليس فى تاريخ البلاد فحسب، بل فى تاريخ المنطقة العربية عموما، حين اختزل الشعب التونسى فى شعاراته أهم المبادئ الحقوقية التى جاء بها الإعلان العالمى سنة 1948، ومثلما جاءت تلك المبادئ العامة بعد حرب كارثية أنهكت البشرية، فاستفاقت لتؤسس لعلاقات بشرية جديدة، فإن ثورة 2011 قد جاءت بعد عقود من الاستعمار وأكثر من نصف قرن من الديكتاتورية والانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان لتؤسس لنظام حكم جديد قوامه الديمقراطية والتعدد وسيادة الشعب، وبرز مفهوم إنسانى تصدر التحركات والمظاهرات والنقاشات، وهو مفهوم الكرامة الإنسانية بكل أبعادها، وهى ذات الكرامة التى خطّها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى فصله الأول حين أعلن أن «جميع الناس يولدون أحرارا ومتساوين فى الكرامة والحقوق». وجاء دستور 2014 ليعكس طموحات الشعب التونسى فى حكم مبنى على «حقوق الإنسان» و«دولة القانون» و«المواطنة والإخوة والتكافل والعدالة الاجتماعية».
ولأن الحقوق لا تتجزأ، وهو ما انتبهت له الدول عبر سلسلة من المواثيق التى تنصص على شمولية حقوق الإنسان، المدنية والسياسية والاجتماعية والبيئية، ولأن بعض حكومات ما بعد الثورة، أصابها غرور الحكم والسلطة فلم تنتبه لاحتجاجات الشباب والجهات الداخلية وتناست تماما مطالب الثورة التى ربطت بين الديمقراطية وحقوق المواطنين والعدالة، فإن الحقوق المدنية قد فقدت بريقها أمام تصاعد مظاهر الفقر وعودة الفساد وتنامى الفوارق الاجتماعية، مما سهّل عودة الاستبداد وفتح الباب أمام الشعبوية السلطوية التى استفادت من الغضب الشعبى لتهدم كل المؤسسات وتؤسس لحكم فردى قد يطول بقدر عجز المؤسسات التعديلية والأحزاب والمنظمات عن الدفاع عن شرعيتها.
رغم مرارة الانحراف الاستبدادى الذى نعرفه اليوم، فإن التجربة التونسية قد قدمت درسين لمن يريد أن يتعظ وينهض من جديد، الأول يتعلق بالأحزاب السياسية التى حكمت – وعارضت ــ بعد الثورة، وهو أن حقوق الإنسان لا تتجزأ وأن تغييب أى من هذه الحقوق له ارتدادات خطيرة قد تكون هى أول ضحاياها، والدرس الثانى يخص المنظمات الحقوقية التى ساندت إجراءات 25 يوليو 2021، فى بداياتها وتغافلت عن تجاوزات عديدة وانخرطت أحيانا فى مسارات مشبوهة بدافع «مسايرة الأمر الواقع»، وهى أن الفرز السياسى والايديولوجى يفقد النشاط الحقوقى مصداقيته ويتناقض تماما مع مرجعيته الإنسانية السامية.