حب وحرية - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:15 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حب وحرية

نشر فى : الأربعاء 1 مارس 2017 - 10:10 ص | آخر تحديث : الأربعاء 1 مارس 2017 - 10:10 ص

ليس كل عهد مستبد شموليًا ولكن كل عهد شمولى مستبد. عبارة جاءت على لسان أستاذ مصرى عظيم علمنى فى الجامعة الفرق بين الاستبداد والشمولية. منذ ذلك الحين أجوب الدنيا أقارن بين البلاد أملا فى التوصل إلى نظرية عامة فى موضوع علاقة الحب بنظام الحكم. أزور الحدائق العامة والجامعات وأماكن اللهو البريء. أمشى بين المتنزهين على كورنيش النهر أو البحر، أركب المواصلات العامة، أصعد إلى هضبة الأهرامات فى الليالى القمرية، أندمج فى جموع الأهالى فى مدن الأقاليم وبخاصة فى أحيائها الشعبية، أجلس منزويا فى مقهى يفضله الشباب. أفعل هذا وكثيرا غيره وأنا أراقب وأرصد وأسمع.

•••

بدأ اهتمامى بالعلاقة بين الحب ونظام الحكم ذات ليلة فى إجازة الصيف. كنت ضمن مجموعة شباب اتفقنا على قضاء سهرة فى سفوح الهرم الكبير.. ركبنا ترام الهرم من ميدان الجيزة نحمل مؤن النزهة. كنا نغنى فى الترام ويتواصل غناؤنا ونحن نختار موقعا نائيا عن مجموعات أخرى سبقتنا إلى اختيار مواقع أقرب إلى أحجار الهرم. امتدت السهرة بين الغناء وسرد الحكايات وتبادل النكات حتى منتصف الليل. نهض بعضنا للتمشية فرادى أو أزواجا. كان نصيبى زميلة جامعية تكبرنى بعامين. اقترحت أن ندور حول الهرم الأكبر. تركنا وراءنا الجانبين المزدحمين عادة بالزوار ووصلنا إلى جانب مطل على الهرمين الأوسط والأصغر. مشينا نتعثر بين أحجار وفى ضوء خافت، أمسكت بيدها أكثر من مرة لأحميها من الوقوع فى حفرة أو الارتطام بحجر، وتعلقت بذراعى مرات لتنهض من كبوة أو لتطمئن إلى الطريق. فجأة ومن وسط الظلمة ومن وراء حجر كبير كان يختفى خلفه خرج جندى يحمل على كتفه سلاحا ويصرخ فينا طالبا منا التوقف مكاننا ومنهالا علينا بشتائم لاذعة واتهامات باطلة. هددنا باصطحابنا إلى قسم الشرطة لتحرير محضر ضدنا إذا لم نكشف عما فى جيوبنا. فهمنا القصد ورفضنا بعزم وحزم فانتهت نزهتنا فى القسم متهمين جميعا بالتجسس وتصوير مواقع لا يسمح بالتصوير فيها والاضرار بالأمن القومى. أقسمنا ليلتها أننا لو سنحت لنا، صبيانا وبنات، فرصة حب فلن نجازف ونصعد إلى الأهرامات.

ما زلنا نسمع الأغانى العاطفية، القديمة طبعا أكثر من الجديدة، لأننا اكتشفنا أن الجديدة تفتقد إلى شيء لم ندركه بعد. وما زالت العلاقات الغرامية تشكل تراثا غنيا يفخر به المصريون ويتفاخرون به على غيرهم. الحب المصرى، رغم كل ما دخل عليه من تشوهات سطحية لأسباب تكنولوجية واقتصادية ونفطية، لا يزال كأقرانه فى بلاد جنوب أوروبا والهند وأمريكا اللاتينية عفيا وسليما، وكلها بلاد لم تتعرض لشمولية الحكم.

•••

تعودت خلال إقامتى فى العاصمة الصينية قضاء بعض الوقت يوم العطلة فى حديقة عامة تتوسطها بحيرة ويؤمها الشباب والعائلات. هناك كنت أجلس على أريكة خشبية تطل على البحيرة وحولها أرائك عديدة أخرى متناثرة. لفت نظرى فى الزيارة الأولى قبل أن يصبح مألوفا منظر شخصين يجلسان على أريكة من الأرائك يستحيل على الجالس فى موقعى أن يميز بينهما، أيهما الصبى وأيهما الفتاة. الملبس واحد، الشعر واحد، الحذاء « الكوتشى» واحد وفى يد كل منهما الكتاب الأحمر، الكتاب الذى صاغه الرئيس ماو ويحتوى على توجيهاته ونظرته إلى الدنيا والمجتمع والناس. الصبى والفتاة على الأريكة لا يتلامسان سواء امتدت جلستهما دقائق أو ساعات ينهضان بعدها ويمشيان نحو موقف الدراجات ليستقلا دراجتيهما ويخرجان لينصهرا وسط ملايين الدراجات فى شوارع العاصمة ويلحقا باجتماع فى الحزب.

يزين الحديقة تمثالان. تمثال من البرونز يجسم ثلاثة أطفال فى قارب يطفو على أمواج نوتة موسيقية. التمثال يمجد فيلما سينمائيا للأطفال أنتج فى منتصف الخمسينيات، ويصور أطفالا فى قمة السعادة يجذفون على كلمات أغنية عنوانها «تعالوا نجذف» تقول الأغنية:

بعد أن انتهينا من عمل واجبنا المنزلى
أتينا لنمتع أنفسنا
أسألكم يا أصدقائى الأعزاء
من منحنا هذه الحياة السعيدة

بطبيعة الحال لا تجيب الأغنية، واجب الأهل أو المعلمين المرافقين للأطفال أن يجيبوا بعد أن يستحثوا الأطفال على الإجابة التالى نصها «هذه الحياة السعيدة منحنا إياها الحزب الشيوعى والرئيس ماو».

أما التمثال الآخر فهو أيضا لثلاثة أطفال يجلسون فى انتباه وخشوع أمام جندى يجلس على مقعد يحكى لهم عن بطولاته. واجب الأهالى والمعلمين أن يسردوا للأطفال البطولات التى حققها هذا الجندى.

•••

لم تمر سنوات قليلة إلا وكان الأطفال الذين جاءوا إلى الحديقة واستمعوا إلى إجابات أهاليهم ومعلميهم يجوبون غرف الأساتذة فى جامعاتهم التى يدرسون فيها يقتلون منهم من شاءوا أن يقتلوا ويعذبوا من شاءوا. راحوا يحرقون منازل وزراء ومسئولين، أشعلوا نيران ثورة غاضبة فى جميع أنحاء الصين. أخرجوا كنوز الغضب والكره بتعليمات من الرئيس ماو. أطلق هؤلاء الشباب الذين فرض عليهم أن يحبوا الحزب الشيوعى والرئيس ماو والجيش بدلا من أن يحب بعضهم البعض الآخر صبيانا وبنات، أطلقهم لتطهير الوطن والنظام الحاكم. جدير بالذكر أن معظم أفراد الحكم فى الصين الآن كانوا أعضاء فى الحرس الأحمر الذى نفذ الثورة الثقافية. هم الآن أقرب ما يكونون إلى ارستقراطية حاكمة، مثلهم، مع الفارق الأيديولوجى الواسع، مثل شباب عصر النازية الذين شاركوا فى حكم ألمانيا وأقاموا نظاما ديموقراطيا ليبراليا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. أفراد حرمهم الحكام فى مرحلة الشباب من متعة وطهر الحب والعاطفة الإنسانية وغرسوا فيهم واجبات تقديس أفكار وأصنام أصبحوا قادة فى دولهم يرفعون شعارات مختلفة، هل حقا تغيروا؟

•••

الاستبداد العادى لا يلغى الحب. لا يلغيه لأنه لا يملك من القوة، مهما بدت وفيرة، ما يساعده على إعادة صياغة غرائز البشر وعواطفهم. أما إذا توافرت طاقة تنظيمية هائلة كتلك التى توافرت للحزب الشيوعى الصينى وللنازية أو كتلك التى توفرها وتضمنها وتؤمن تقدمها ابداعات تكنولوجية، بمعنى آخر إذا توفرت للشمولية أهم شروطها فمن الممكن جدا وفى وقت زهيد وأد العاطفة وغرس الكراهية محل الحب. حقيقة، وليس مبالغة، أخشى على مصير الحب فى أمريكا من ظاهرة ترامب، فالشروط جميعها متوافرة فى الرجل وجماعته وتكاد تكون متوافرة فى حال الدولة والمجتمع.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي