أخشى أن يكون البعض قد فهم أن قطار الثورة توقف عند محطة الإعلان الدستوري ، و من ثم دعوا إلى ما أطلقوا عليه "الحوار الوطني" الذي لم يتورعوا عن وضع "المصالحة مع رموز النظام السابق" في جدول أعماله .
لقد عرفنا الدكتور يحيى الجمل "عمدة مصطبة الحوار" كمنجم قفشات و مداعبات و إفيهات حراقة ، غير أنه في هذا الحوار الوطني يتفوق على نفسه و يظهر مستوى غير مسبوق في التنكيت و التبكيت .
فالرجل يجسد ذلك التناقض المخيف في التعامل مع ثورة 25 يناير ، فهو يتحدث عن ضرورة محاكمة رموز النظام السابق ، ثم يدعوهم للجلوس على مصطبة حواره الوطني ، و هو الذي يعلن أنه من الثوار و معهم ، و مع مطالبهم ثم و بعد ن يسقط الثوار بلوفر أحمد شفيق بمن يرتديه ، و يأتوا بعصام شرف رئيسا للوزراء يخرج علينا الجمل بما حمل من فكاهة ليقول "خسرنا أحمد شفيق" ، ولم تتوقف عجلة قفشاته عن الدوران فيما بعد ، إذ تأخذه الرغبة في اصطياد الافيهات إلى مناطق مثيرة لأسئلة من عينة :كيف يستمر هذا الرجل نائبا لرئيس وزراء لا يرى فيه سوى "بسكوتة"
إن حوارا يعف عن حضوره مفجرو الثورة لا يستقيم أن نطلق عليه "الحوار الوطني" بأي حال من الحوال ، فضلا عن أن توقيته غريب و مريب ، عقب الكشف عن الإعلان الدستوري مباشرة ، بما يوحي بأن كل المطلوب من الضيوف الذي جرى تجميعهم على عجل هو أن يبصموا على روعة و عظمة الإعلان الدستوري و ما سبقه من قانون للأحزاب تحدثت بعيوبه كل الأطراف المعنية به.
ولذلك كان موقفا رائعا من شباب ائتلاف الثورة ألا يستجيبوا لاستدعائهم – وليس دعوتهم للمكلمة- على هذا النحو و قبل ساعات معدودات من نصبها ، فمن غير المعقول أن تصدر رموز الحزب الوطني المحترق – كمبنى و كظاهرة سياسية – المشهد بل و تجد من يدعو إلى التصالح معها بكل هذه السهولة.
و الكارثة الحقيقية أن من بين تركيبة الحكم الحالية من لا يريدون التسليم بأن ما جرى هو ثورة مكتملة ، و ليست خناقة في فصل بين تلاميذ قرر حضرة الناظر أن يجمعهم و يأمرهم بمصالحة بعضهم البعض و تبادل القبلات و الأحضان على طريقة "العبوا مع بعض انتو اخوات "
ولعل هذه العشوائية و الارتجالية الزاعقة هي الخطر الأكبر الذي يتهدد مصر الآن ، فالدعوة إلى حوار لم يتم التحضير له و لم يوضع له جدول أعمال أو أهداف ، من شأنها أن تسهم في اتساع الفجوة بين الشعب الذي أنجز الثورة و بين من يديرون البلد بعدها .
و عليه فإن المطلوب الآن البحث عن صيغ و أدوات تعيد ترميم جسور العلاقة بين الجماهير و حكامها ، بعيدا عن هذه المهرجانات الدعائية التي لا يتجاوز أثرها حدود القاعة التي تعقد فيها .
وحتى يتحقق ذلك فإن جمعة اليوم و ما يتلوها من "جمع" ستبقى ملاذا و طريقا لمن عقدوا العزم على استكمال ثورتهم .