يقول الكاتب والفيلسوف الإنجليزى لويس كارول «إذا لم تكن تعلم أين وجهتك، فاسلك أى طريق وسيأخذك إلى هناك»، وبالطبع سيأخذك إلى اللامكان. تكاد تنطبق هذه المقولة على الأسلوب الذى تدار به السياسات الاقتصادية فى مصر حاليا. فعلى الرغم من الوضع الاقتصادى شديد التأزم الذى تمر به البلاد، تتسم السياسات التى تنتهجها الحكومة بالضبابية وعدم وضوح الرؤية، لدرجة تشعرك أحيانا بأن هناك حالة من غياب الوعى والإدراك الحكومى لحجم وخطورة وتداعيات الأزمات الاقتصادية الراهنة، ناهيك عن التناقض الشديد بين الأهداف والآليات التى تتبناها الهيئات الاقتصادية التابعة لنفس الحكومة وكأن كل فى فلك يسبحون!
فبمراجعة تصريحات وزراء المجموعة الاقتصادية أخيرا، إلى جانب الخطط التى تضمنها برنامج الحكومة وما تلاه من تطورات فى الشأن الاقتصادى الداخلى، تتجلى هذه الحالة بوضوح فى السياسات التى تدار بها أزمة سعر الصرف وتآكل قيمة العملة المحلية أمام الدولار، والتى تعد أكثر الملفات الشائكة التى تواجهها الحكومة فى الوقت الراهن. ففى الوقت الذى تبنى فيه البنك المركزى سياسة «انكماشية» لدعم العملة المحلية وتوفير التمويل اللازم لسداد عجز الموازنة، رأينا جميعا كيف جاء بيان الحكومة مرتكزا على مجموعة من سياسات الإنفاق «التوسعية» من خلال حزمة كبيرة ومتنوعة من المشروعات القومية والبرامج الاقتصادية. وفى ظل هذه الشيزوفرينيا الحكومية والتناقض بين أهداف السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية، يجد المرء نفسه فى حالة من الحيرة الشديدة، فكيف يرفع البنك المركزى سعر الفائدة وفى المقابل تتجه الحكومة للإنفاق التوسعى الذى يستوجب نظريا خفض سعر الصرف! أهو (التوسع الانكماشى) ــ مصطلح جديد تدشنه الحكومة؟!
نموذج آخر لتناقضات السياسات الحكومية نجده فى عدم التوافق بين ما أعلنته الحكومة من خطط لخفض معدلات التضخم المتصاعدة وبين سياستها الضريبية التى تستهدف تطبيق ضريبة قيمة مضافة. نستطيع أن نتفهم جيدا وجهة نظر الحكومة فى تطبيق ضريبة القيمة المضافة باعتبارها آلية معتبرة لخفض عجز الموازنة؛ ولكن المشكلة هنا أن هذه الضريبة سوف تضيف مزيدا من الأعباء على قطاعات كبيرة من الفقراء ومحدودى الدخول والتى تئن فعليا من ويلات معدلات التضخم المرتفعة والتى وصلت وفق بعض التقديرات إلى نحو 15%. وهنا نعيد طرح نفس السؤال، كيف نستهدف خفض التضخم من خلال رفع التضخم، أم أنه منطق «وداوها بالتى كانت هى الداء»؟
***
على صعيد آخر، تمت تهيئة الرأى العام المصرى قبيل عرض البرنامج الحكومى «للقرارات الصعبة» التى قال عنها السيد رئيس الوزراء لاحقا بأنها قرارات «طالما تم تأجيلها وأصبح اتخاذها حتميا». ورغم أن طبيعة هذه الإجراءات لم تتكشف بعد، إلا أن الكثير من المحللين يربطون بين هذه القرارات وبين وثيقة البنك الدولى المتعلقة باشتراطات القرض الذى ينتوى البنك منحه للحكومة، والتى اشتملت على خفض ميزانية الأجور الحكومية وتقليص دعم الطاقة، وزيادة حصيلة الضرائب ورفع أسعار الكهرباء، وهنا نجد تناقضا آخر لسياسات الحكومة، فكيف ستحقق الحكومة التواؤم بين إجراءاتها الصعبة التى أصبحت حتمية وبين تحقيق الحماية الاجتماعية؟! إن هذا التواؤم ممكن، وقد أشار بيان الحكومة على استحياء للبرامج التى تستهدف من خلالها حماية الطبقات الفقيرة، ولكن المشكلة هى أن ما ذكره البيان فى هذا الصدد لا يعدو كونه عبارات مطاطة مثل «سوف يصاحبه ــ يقصد القرارات الصعبة ــ برامج للحماية الاجتماعية بالقدر المناسب»، ويخلو من توضيح دقيق لهذه الإجراءات التى ستضمن الحكومة من خلالها عدم انتقال الأثر السعرى لقراراتها الصعبة إلى الطبقات الفقيرة وتأثيراتها المحتملة على أسعار السلع الاستراتيجية والأساسية.
وبمتابعة بانوراما الأخبار الاقتصادية اليومية فى الفترة التى أعقبت بيان الحكومة، نجد أننا أمام سيل من المشروعات القومية والاستثمارية كمشروع محور قناة السويس والمنطقة اللوجستية، ومشروعات المدن الجديدة والعاصمة الإدارية، ومشروع المليون ونصف الفدان، والمفاعل النووى ومحطة الضبعة، ومحطات الغاز الجديد، وغيرها. فلقد حلق بنا بيان الحكومة فى فضاء من «الأحلام» الاقتصادية التى نشترك فيها جميعا ونتمناها، ولكنه لم يتطرق بشكل واف إلى الآليات التى ستوظفها لتحقيق هذه الأحلام، وفى ظل غياب هذه التفاصيل – والشيطان يكمن فى التفاصيل ــ المتعلقة بالميزانيات ومراحل التنفيذ ومواعيد الانتهاء والجدوى الاقتصادية والمجتمعية، بدا البيان الحكومى مجرد استعراض لبنود الموازنة العامة دون أن يضع بين أيدينا خطة لعمل الحكومة خلال الفترة المقبلة، وترك لنا الكثير من علامات الاستفهام حول مدى واقعية هذه البرامج وامكانية تحقيق أهدافها فى ظل هذا الوضع الاقتصادى شديد التعقيد.
لقد جاء شعار البرنامج الاقتصادى للحكومة «نعم نستطيع» مقتبسا من الشعار الذى استخدمه الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهذا أمر لا حرج فيه، ونحن لا نقصد التشكيك فى مسألة «نحن نستطيع»، بقدر ما نتساءل «كيف» ستنفذ الحكومة هذه السياسات والبرامج الاصلاحية؟ إن المؤشرات الاقتصادية المتاحة تظهر أن الدين العام الحكومى سوف يتجاوز 2.6 تريليون جنيه فى موازنة العام المالى 2015/2016، أى ما يعادل أكثر من 90% من الناتج المحلى الاجمالى، علاوة على أعباء خدمة هذا الدين والتى ستصل لقرابة 250 مليار جنيه، بالإضافة إلى ما يقارب 250 مليار جنيه أخرى هى جملة عجز الموازنة المتوقع، هذا بالطبع إلى جانب ارتفاع معدل البطالة وتناقص حصيلة الموارد الدولارية فى ظل تراجع أداء القطاع السياحى وانخفاض دخل قناة السويس، وغيرها من الاختلالات الهيكلية المزمنة التى تدلل مجددا على مسألة غياب التنسيق بين الأجهزة الاقتصادية الحكومية؛ وتلقى الضوء على حالة عدم الإدراك وغياب الوعى الحكومى بجوهر الواقع الاقتصادى المرير الذى تمر به البلاد، بل وتتبين لنا حالة (الفصام الاقتصادى) التى نعيشها والتى تتجلى فى رسم الحكومة لسياساتها الاقتصادية فى غير مسار وسياق الوضع الاقتصادى على أرض الواقع.
***
ودعونا نعترف أن الواقع الاقتصادى فى مصر صعب، والتحديات كثيرة ومتزايدة، والحكومة فى وضع لا تحسد عليه، فالخيارات محدودة، وكل له وعليه ولا تكاد تخل سياسة لحل أزمة قطاعية أو فئوية من تداعيات سلبية على قطاعات اقتصادية أو فئات مجتمعية أخرى. وفى هذا الإطار، تخبرنا أبجديات علم إدارة الأزمات أنه إذا كانت السياسات المطروحة لحل أزمة ما سيستتبعها أزمات أخرى، فهذا معناه أنها لن تحل الأزمة بل ستجعلها تكبر ككرة الثلج، وتنتقل إلى قطاعات أخرى وتزداد لتصبح أكثر تعقيدا. وما عمدت إليه السياسات الاقتصادية حتى الآن يندرج تحت هذا المفهوم ويفتقر إلى أبجديات إدارة الأزمة بمفهومها العلمى، مما يجعلها أقرب ما يكون إلى مجرد ردود فعل عشوائية لا تأخذ فى الحسبان جميع الأبعاد التى يجب مراعاتها عند إدارة الأزمة.
ولذا، أعتقد أننا بحاجة إلى مراجعة سياساتنا الاقتصادية وآليات تنفيذها، فالحلول الجزئية التى تقوم على رؤية جهة واحدة لأزمة متشابكة لن تحل المشكلة قبل ترحيلها إلى قطاعات أخرى، أو تخلق أزمات أكبر وأصعب، وفى ظل هذا الوضع الشائك لا بد للحكومة أن تحدد توجهاتها بدقة فإما أن تتبنى سياسات توسعية من خلال زيادة الانفاق الاستثمارى بهدف رفع معدلات النمو الاقتصادى، أو أن تتبنى سياسة انكماشية من خلال خفض الانفاق العام لكبح عجز الموازنة العامة للدولة، ولنجاح التوجه أيا ما كان لا بد من «الواقعية» فى صياغة السياسات والادراك الكامل لمعطيات وتحديات الواقع الاقتصادى الراهن، وقبل هذا وذاك لابد من مراعاة بديهيات التخطيط والإدارة الاستراتيجية وأهمها هى التنسيق بين أجهزة وأعضاء الجسد الاقتصادى فلا يشذ منها عضو ولا تتضارب لها توجهات، حتى تتناغم سيمفونية الأداء الحكومى وتدور السياسات الاقتصادية فى ذات الفلك.