اتفق الروس والأمريكيون على أن يجدوا حلا مناسبا لهما فيما يخص المسألة السورية. وجرت اللقاءات الثنائية سرا وعلانية، بحضور خجول أحيانا من ممثلى الدبلوماسيات الغربية، وبتهميش، فى العلن على الأقل، للقوى الإقليمية. ولم يستطع أحد معرفة حقيقة ما تم الاتفاق عليه عدا كونه محاولة لوضع خطة جنيف الأولى، والتى مضى على اعتمادها قرابة العام، موضع التنفيذ.
وإن كانت النسخة الأولى مبهمة وقابلة للاجتهاد وللعديد من التفسيرات، فيبدو بأن الخطة الثانية لن تحاول أن تنزع عنها سمعة الغموض وفتح المجال أمام ترجمات متعددة واجتهادات متضاربة، والتى لم يتوقف، ما يسمى بالمجتمع الدولى، عن استنباطها منذ تكوين الهيئات الأممية فى بدايات القرن المنصرم.
هذا كله، سمح بالإكثار من الشائعات عربيا بكثرة، فهذا تقليد لا نية للتخلص منه أبدا، وغربيا بنسبة أقل وباستناد أكبر على معطيات تحليلية تخطئ أو تصيب. وشرعت الصحف بنشر ما تقول عنه بأنه أخبار مسرّبة حول مضمون الاتفاق ومآلاته. فمنها من يتحدث عن صفقة غازية روسية غربية تسمح بتغيير النظام السورى، وأخرى تتطرق إلى مرحلة انتقالية تحافظ على رئاسة شكلية لبشار الأسد، وثالثة تتحدث عن استمرار النظام الحالى بإصلاحات جذرية وبمصالحات مجتمعية. وربما آخرها من يطرح مشروع تقسيم على شكل أقاليم دينية أو شبه دينية.
●●●
وعلى هامش هذا النقاش الوهمى، تجتمع المعارضات السورية على ألا تجتمع فى جسم سياسى موحد نسبيا يطرح تصورا سياسيا واضحا يعبر عن إرادة شعب قام بالثورة. وذلك بعد أن عجزت دولته عن تأمين حياة كريمة وآمنة تحترم حقوقه الأساسية ولا تنهب مقدراته بلا وعى ولا تورع. وبعد أن عجزت أيضا نخبه السياسية والثقافية المعارضة عن اجتراع أى برنامج واضح يستند إلى طبيعة مجتمعها.
ونقلت بالتالى هذه المعارضات التقليدية، جزءا كبيرا من إرثها الإيديولوجى المتجمد، إلى حيّز نقاش عام مقيد أمنيا، وبعيد أشد الابتعاد عما يعنى مواطنيها فعلا وعملا. المعارضات، أو حتى يمكن القول، المعارضون السوريون، تائهون بين ثلاثة نوازع ولا يفاضلون بينها إلا لماما : الإرث الإيديولوجي/ الدوغمائى لكل منهم أولا، والتأثير المتصاعد للاحتجاجات الشعبية التى تطالب بأن تمثّل حق التمثيل فى مؤسسات المعارضة، ثانيا، وأخيرا، الضغوط السياسية غربيا، والمالية عربيا، التى لا تبحث البتة عن صالح الشعب السورى بمقدار ما هى تحاول التأثير على ملف يدخل فى إطار صراعات اقليمية أشمل.
وتضيع الهمم فى مناكفات جزئية تغذّيها ثقافة سياسية ضحلة لم تستطع السنتين السابقتين من أن تعزز من مقدراتها الذهنية على أقل تقدير.
وبالطبع، فهذا كله لا يساعد فى التحضير لأى مشروع سياسى، فما بالنا إن كان الأمر جللاّ ومتعلقا بمؤتمر دولى قرره الكبار لحسم المسألة بعد أن بدأت أخطار تفجرها تطرق على أبوابهم. ولكن، هل المؤتمر هو حقا بهذه الأهمية؟ هل تم التحضير له من الجانب الآخر على الأقل؟ هل وضعت تصورات لسيناريوهات وبدائل عملية؟
●●●
إن الدلائل تشير إلى ضعف وجود هذه المقومات اللازمة لإنجاح المؤتمر من الجهة الدولية. وبالمقابل، هناك تحضير واسع وعميق من الجانب الحكومى السورى. فمن الجهة العسكرية، تنشط العمليات على الأرض لتسجيل نقاط تقدم على مختلف الجبهات. وتنشط العلاقات العامة المعتمدة على وسائط توصيل متطورة الإمكانيات والارتباطات، لتعزيز التخوف الغربى من التحوّلات المتطرفة فى جسم الثورة السورية وخصوصا فيما يخص جانبها العسكرى.
وأخيرا، يُعدّ النظام لوفد سياسى وليس أمنيا ولا عسكريا، للمشاركة كضيوف شرف لن يقربوا الحديث فى الأمور الأساسية والمبدئية، وسيكون مجمل دورهم، إبراز قوة واستمرارية دولة تعتمد نظريا على مكونات متعددة من أطيافها لتمثيلها السياسى الدولى. والجميع يعلم، إلا من أراد دفن رأسه فى الرمال الرطبة، بأن هذا الصف من «القيادات» لا ناقة له ولا جمل فى إقرار أى مسار، حتى فيما يخص مسار عودتهم مع سائقهم من المكتب إلى البيت.
منذ عدة أشهر، نشرت «مبادرة الإصلاح العربى» تقريرا مفصلا عن لقاء علمى أجرته فى سراييفو للاستفادة من التجربة البوسنية فى المسألة السورية. يبدو أنه مر مرور الكرام فى غابة الفذلكات السياسية للبعض. عندما جاء البوسنيون إلى المفاوضات من دون تصور، فُرضت عليهم اتفاقية دايتون التى لم تؤسس لدولة «طبيعية» لكل مواطنيها.
نائب مدير مبادرة الإصلاح العربى