انكفاء المثقفين - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الإثنين 25 نوفمبر 2024 1:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انكفاء المثقفين

نشر فى : الإثنين 1 يونيو 2015 - 10:40 ص | آخر تحديث : الإثنين 1 يونيو 2015 - 10:48 ص

عند منحنى الخطر الداهم تجلت قوة مصر الناعمة فى ميادين الصراع على المستقبل.

كان اعتصام المثقفين حدثا فريدا واستثنائيا فى التاريخ المصرى الحديث كله.

باليقين هو أحد مقدمات التغيير الكبير فى (٣٠) يونيو.

كانت مصر على أعصابها تترقب ما قد يحدث فى هذا اليوم المصيرى من تاريخها.

حسم الصراع فى الضمير العام قبل أن يحسم فى الميادين المفتوحة.

السؤال الآن: لماذا تبدد زخم الحضور بأسرع من كل توقع؟

فى الانكفاء أزمة صامتة لكنها منذرة.

هناك قيود على البوح ودور المثقف أن يبوح.

بتعبير المفكر الفلسطينى الراحل الدكتور«إدوارد سعيد»:«دور المثقف هو الشهادة، أن يشهد على التاريخ أو على الظلم، يتمرد على السلطة ويشكك فى الأفكار السائدة».

إذا التزم المثقف بدوره فقد يدخل فى صدام مفتوح بلحظة حرب ضارية مع الإرهاب.

وإذا انكفأ على نفسه فإنه يخون قضيته فى الحرية والعدل والإبداع.

الصدام مشروع إرباك والانكفاء مشروع انكسار.

بين الإرباك الذى يقلقه والانكسار الذى يتهدده تتبدى نسخة جديدة من أزمة المثقفين المصريين.

لكل عصر أزمة مثقفيه.

فى الستينيات لم تكن هناك «ديمقراطية سياسية» بالمعنى الليبرالى المتعارف عليه، وكان هذا موضوع كل الفجوات بين الدولة والمثقفين.

غير أن«الديمقراطية الاجتماعية» و«الديمقراطية الثقافية» حملتا مشروع ثورة«يوليو» إلى آفاق بعيدة.

حيث ضاق النظام السياسى اتسع افق المشروع.

بعد هزيمة يونيو تحدث «جمال عبدالناصر» عن المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات وحاور الشباب الغاضب.

كان مثيرا أن تنحاز الأغلبية الساحقة من المثقفين اليساريين إلى «مشروع يوليو» بعد رحيل «عبدالناصر» رغم ما تعرضوا له من عنت بالغ فى سجونه.

لم يكن دفاعا عن نظام بقدر ما كان انحيازا لأفكارهم وأحلامهم.

المعنى فاق المرارة والحلم غلب الألم.

فى الستينيات حاولت حركة الإبداع أن تلاحق التحولات الاجتماعية الكبرى وما أطلقته من أحلام وأن تحذر فى الوقت نفسه من انكسار محتمل للثورة من بين ثغرات خلل نظامها.

لم يكن صوت النبوءة مسموعا بدرجة كافية قبل أن تقع الواقعة.

فى السبعينيات أخذت أزمة المثقفين مدارا جديدا.

تقوضت الأحلام الكبرى وتصدرت صورة «المثقف المطرود» كل الصور الأخرى.

كانت تلك تجربة مريرة شهدت تضييقا على أى معنى لأية ديمقراطية ثقافية.

رغم ذلك شهدت الحقبة نفسها أوسع عملية تمرد خارج كل سياق رسمى، ترفض وتمانع وتبدع فى الوقت نفسه.

فى تلك الأيام اختفت تقريبا صورة «المثقف الحالم» أو «المثقف القلق».

سادت المجال العام صورة «المثقف الغاضب» و«المغضوب عليه» أو «المنفى» فى بعض الحالات.

ترددت على نطاق واسع عبارة أديب غاضب «نحن جيل بلا أساتذة» وكادت الحركة الثقافية أن تتبنى عنوان مسرحية بريطانية شهيرة «انظر خلفك فى غضب».

باليقين فهذا هو جيل المتمردين.

وصلت بواكير التمرد إلى «توفيق الحكيم» فى برجه العاجى.

فى عام (١٩٧٢) تصدر اسمه الكبير بيانا للمثقفين يتضامن مع مطالب الحركة الطلابية.

من بين الذين وقعوا هذا البيان «نجيب محفوظ».

وقد أثار البيان غضب الرئيس الأسبق «أنور السادات»، فهو يدرك أثره السياسى الفادح على صورة حكم فى بداياته..

الأديبان الكبيران لم تعهد عنهما صورة «المثقف الملتزم» رغم أن أولهما رائد المسرح العربى بمعناه الحديث وثانيهما أعظم الروائيين العرب بلا منازع.

فى الثمانينيات وما بعدها بدت الصورة أقرب إلى «المثقف المنهك».

هذه قصة طويلة أفضت إلى تواتر أعمال أدبية وفنية تنذر بنهايات تقترب.

لم يتوقع أحد أن تكون هناك ثورة على النحو الذى حدثت به، أو أن تلهم مشاهدها العالم كله، لكن لا أحد فى الوقت نفسه راهن على احتمال أن يبقى الوضع على ما هو عليه.

- فى زخم «يناير» هتف الشاعر الكبير الراحل «عبدالرحمن الأبنودى»:

«‬يرجع لها صوتها.. مصر تعود ملامحها

تاخد مكانها القديم والكون يصالحها».

كل ما له قيمة فى مصر تطلع إلى نظام جديد يلتحق بعصره، ينتصر للحرية ويحلم بالعدل.

فى الميدان برزت قوة الإبداع من أغانى الرصيف إلى رسوم الجرافيتى.

من كبار الشعراء والمطربين إلى من هم عند خط التجربة الأولى.

تماهت صورة المثقف الثائر مع الأحلام المحلقة قبل أن تصدمه الحقائق المروعة.

فى «يناير» بدا المثقف طرفا فى الصراع على المستقبل بصفته مواطنا قبل أن يكون مبدعا.

فى «يونيو» الأمر لم يكن على هذا النحو.

تقدم المثقفون الصفوف كجماعة شبه منظمة إرادتها شبه موحدة فى الدفاع عن الثقافة المصرية ضد أى تغول عليها أو تهديد لها.

فى دفاع المثقف عن قضيته تأكد ارتباطها بروح الغضب العامة.

لأول مرة فى التاريخ تجرى عروض باليه فى الشارع وترتفع أصوات الغناء الملهم فوق أصوات النشاز السياسى.

عجزت جماعة الإخوان المسلمين أن تلتقط الرسالة، أن الفجوات معها اتسعت وأن وقت التغيير اقترب.

استهترت تماما، وهى تتابع من بعيد رجلا ثمانينيا يتكئ على عصاه، يصعد بصعوبة سلالم وزارة الثقافة ليعتصم فيها مع عدد محدود من كبار المثقفين والمبدعين.

لم تدرك أن «بهاء طاهر» لخص فى هذه اللحظة روح التمرد فى «أبناء وأحفاد رفاعة الطهطاوى».

صورة المثقف الملتزم سادت مشاهد «يونيو» قبل أن تتوارى فى الظلال.

كل ما حلم به يكاد يتقوض مرة أخرى. لا يرى أمامه دولة مدنية ديمقراطية حديثة ولا تلوح آفاق لأية عدالة اجتماعية محتملة.

ثار على اختطاف الجماعة لـ«يناير» فإذا به يرى اختطافا آخر لـ«يونيو».

الذين يطلبون الاختطاف الجديد لم يكونوا طرفا فى أية مواجهة، ولم يكن أحد منهم يجرؤ أن يذهب إلى حيث اعتصام المثقفين والفنانين والمفكرين.

فى تضييق المجال العام انكفاء على الجراح وانكسار فى الروح.

قضية أى مثقف حرية التفكير والتعبير والإبداع، وهذه منصوص عليها بتوسع فى الدستور لكنها شبه معطلة.

السؤال المقلق: أين فلسفة الحكم وانحيازاته الكبرى؟

فى طلة الماضى على المشهد مشروع هزيمة لكل معنى فى اعتصام المثقفين ولكل تضحية لإزاحة الخطر الداهم.

بطبيعة التكوين فإن الفجوات واسعة بين ضمير المثقف وتوحش رأس المال.

ولم تكن مصادفة أن المؤتمر الاقتصادى فى «شرم الشيخ» لم يتبن أى مشروع للاستثمار فى الثقافة رغم كل الاقتراحات التى قدمت.

فى انكفاء المثقف مشروع استغناء جديد عن الثقافة.

وهذه كارثة حقيقية ومنذرة لمن يقرأ رسائل المستقبل.