لم تتراجع دول أوروبا عن نيتها خفض معدلات الإنفاق الحكومى، باعتباره السبيل الوحيد للخروج من الضائقة المالية التى نتجت عن الاهتمام الكبير لسياسات الرفاه الاجتماعية، ونتجت أيضا عن العاصفة المالية التى ضربت العالم الرأسمالى فى خريف 2008. لم تتراجع، كما ظهر واضحا من خلال اجتماعات قمة الثمانى ثم العشرين فى كندا، ولن تتراجع.
إذا كنا نؤمن حقا بأن أوروبا لن تتراجع عن سياسة التقشف فى الأجل القصير، فإنه يجب علينا أن نقتنع بأن مساهماتها كدول أعضاء فى حلف الأطلسى سوف تنكمش. وبالفعل أعلنت كل من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا أن ميزانيات الدفاع سوف تتقلص. ومن لندن صرح ليان فوكس وزير الدفاع فى حكومة الائتلاف الجديدة بأن حكومته لن تكون «رحيمة» مع ميزانية الدفاع.
نعرف أن نية التخفيض ليست جديدة أو طارئة، فقد انخفضت ميزانية الدفاع الإسبانية فى العام الماضى بمبلغ 400 مليون دولار، قبل أن تعلن أن التخفيض المخطط للعام الحالى قد يصل إلى 600 مليون.
وفى ألمانيا أعلن وزير الدفاع عن رغبته فى الاستغناء عن 40.000 جندى فى الجيش الألمانى وعدد أفراده 250.000 فرد، ومازالت ألمانيا متمسكة ببقاء قواتها داخل معسكراتهم على الأراضى الألمانية وتمنع خروجهم بأعداد كبيرة إلى مناطق قتال فى الخارج.
إن الإصرار الأوروبى على انتهاج سياسة التقشف فى الإنفاق يعنى عدة أمور:
أولا: سوف تجد دول أوروبية فى سياسات التقشف ما يبرر أمام الولايات المتحدة والعالم الإجراءات التى شرعت بالفعل فى اتخاذها لخفض الإنفاق على شئون الدفاع، وتكشف معظم الميزانيات الأوروبية عن ميل واضح فى هذا الاتجاه.
ثانيا: سوف يلحق بتخفيض ميزانيات الدفاع خفض فى مساهمات دول أوروبا الأعضاء فى حلف الناتو بشكل عام، وسوف يشمل التخفيض عدد القوات التى تسهم بها الدولة إلى جانب الدعم المالى. يدخل فى هذا الإطار قرار قيادة الحلف بتخفيض عدد العاملين فى اثنى عشر مقرا من مقار الحلف فى شتى أنحاء القارة.
ثالثا: فإذا ما انخفضت مخصصات حلف الأطلسى يصبح من المؤكد أن ينخفض عدد الجنود الأوروبيين العاملين فى أفغانستان، هذا بالإضافة إلى أن سياسات التقشف قد تشمل المعونات الاقتصادية وموازنات التدريب المخصصة لأفغانستان من جانب دول الحلف.
رابعا: انخفاض مساهمات الجانب الأوروبى فى ميزانية حلف الناتو وفى الإنفاق الدفاعى بوجه عام سوف يعمل على توسيع الفجوات القائمة فعلا بين جناحى الحلف الأطلسى.
بمعنى آخر، يبدو أن ما يسمى بالمشهد الباسيفيكى يتكرر. لقد رأينا عبر مراحل متعددة فى القرن العشرين كيف صار المحيط الهادى «بحيرة إمبراطورية» تخضع بالكامل للولايات المتحدة الأمريكية.
فلسنوات طويلة لم تنافس الولايات المتحدة قوة أخرى من القوى الكبيرة المطلة عليه، لا الاتحاد السوفييتى ولا الصين ولا اليابان ولا أستراليا. لم يحدث شىء مماثل فى المحيط الأطلسى، لأن الغرب المنتصر اتفق على إقامة حلف باسم الأطلسى يجمع بين ضفتى المحيط فيجعله محيطا غربيا وليس بالضرورة أو بالشكل أمريكيا وإن كان للولايات المتحدة فيه موقع القائد.
الآن وعلى ضوء التخفيضات فى الإنفاق الأوروبى على الدفاع والزيادات الهائلة فى نفقات الحرب الأمريكية، وفى الوقت الذى تتسارع فيه خطوات الصين التسليحية ويزداد إنفاقها على شئون الدفاع، يكاد الأطلسى يحل محل الهادى كبحيرة أمريكية وإن ليست «إمبراطورية» ويكاد المحيط الهادى يعود إلى مرحلة حين كانت اليابان تحاول إجبار الولايات المتحدة على القبول بمبدأ الهيمنة المشتركة على المحيط. الاختلاف الوحيد بين المرحلتين هو أن الصين تحاول إقناع الولايات المتحدة ولا تحاول إجبارها.
شهدت الأسابيع الأخيرة تطورات مهمة على صعيد الخريطة الاستراتيجية العالمية، كان بين عناوينها الرئيسية عنوان: «الناتو ينسحب تدريجيا من ساحات المواجهة الدولية بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية»، وعنوان «رغبة الدول الأوروبية فى خفض إنفاقها على الدفاع»، وعنوان «مؤشرات عديدة على فشل الجهود العسكرية فى أفغانستان وبوادر انسحاب أمريكى على نطاق واسع»، وعنوان «اشتعال بؤر توتر كثيرة فى وسط آسيا ربما السباق على النفوذ فى دول المنطقة لإقامة قواعد عسكرية واستغلال الثروات المعدنية».
وعناوين أخرى من نوع الاعتراف الضمنى من جانب الدول الغربية بالصين قوة هيمنة إقليمية عظمى وإدراك عام بمغزى الزيادة الكبيرة فى الإنفاق العسكرى الصينى وإقامة الصين قواعد بحرية وبناء موانئ جديدة فى دول آسيوية وأفريقية عديدة. هذه العناوين وغيرها تعكس تطورات تعيد فى مجملها التنبيه بشكل عام إلى الأهمية الاستراتيجية الفائقة لآسيا الجديدة، والتنبيه بشكل خاص إلى محورية أفغانستان فى سياق استراتيجى مختلف عن السياق الذى جرى فى إطاره غزوها واحتلالها، أى قبل عشرة أعوام أو أقل قليلا.
هنا، وعلى ضوء هذه العناوين وعواقب الأزمة الاقتصادية الممتدة، يبدو التحليل الذى قدمه هنرى كيسنجر ونشرته صحف غربية فى مطلع هذا الأسبوع مستحقا للتأمل والاهتمام، وأكثر من التحليل تبدو التوصيات التى يقترحها جوهرية لكل من يحاول استشراف مستقبل للمغامرة الأمريكية فى أفغانستان. يبدأ كيسنجر، كما يبدأ دائما كل معلق أو خبير يقرر أن يقترب من الموضوع الأفغانى، بتسجيل ملاحظات تاريخية. أولها: أن أحدا فى التاريخ لم يفلح فى فرض الأمن والاستقرار على أفغانستان مستخدما قواتا أجنبية. ثانيها: أن أفغانستان ليست دولة، ولن تكون، وإنما هى فى أفضل الأحوال مجموعة كيانات عرقية وقبلية يتمتع كل منها باستقلال شبه ذاتى.
ولا يمكن أن تقوم فيها لمدة طويلة حكومة مركزية تسيطر على البلاد كافة. ثالثها: أن أهل البلاد يتمتعون بصلابة نادرة فى التمسك باستقلالهم، وهى الصلابة التى تجعلهم غير قابلين أو مستعدين للخضوع لحكومة مركزية أو لقوة أجنبية.
بعد هذه المقدمة التاريخية التى ألفناها ينتقل كيسنجر إلى مقدمة وصفية حيث يقوم بتشريح الاستراتيجية الأمريكية الراهنة فى أفغانستان فيصفها بأنها «استراتيجية خروج، ولكن مع التركيز على كلمة الخروج وإهمال كلمة الاستراتيجية».
بمعنى آخر يقول إنه لا توجد استراتيجية لدى القوى الغربية التى تحتل أفغانستان وإنما توجد رغبة فى الخروج، وعاجلا إن أمكن. تسعى هذه القوى عن طريق قياداتها العسكرية والسياسية الموجودة فى أفغانستان إلى خلق قيادات وهياكل سياسية جديدة، وإقامة كونفيدرالية تضم الأقاليم التى تخضع حاليا لسلطات إقطاعية، ومنحها استقلالا ذاتيا إن أمكن. المهم أن يؤدى كل هذا إلى تسهيل الانسحاب الأمريكى المبكر من أفغانستان.
هذا السعى الجهورى للانسحاب العاجل، يراه كيسنجر خطرا مؤكدا يهدد جميع دول آسيا التى تعيش فيها أقلية إسلامية معتبرة. ستفسره الهند التى يعيش فيها 160 مليون مسلم تنازلا أمريكيا عن تعهد واشنطن استمرار البحث عن دور لتحقيق استقرار فى الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وستعتبره الصين تهديدا لهيمنتها على إقليم سنكيانج الذى تسكنه غالبية مسلمة، وستراه روسيا خطرا يهدد مناطقها الجنوبية، وستراه جميع الأطراف الإقليمية فى آسيا بمثابة ترخيص أمريكى للصين لتتولى مسئوليات الهيمنة الإقليمية دون رادع أو منافس.
يقترح كيسنجر تفاديا لمزيد من تدهور المكانة الاستراتيجية الأمريكية التوقف عن الحديث عن انسحاب أمريكى قريب أو واسع، والبدء فورا فى إعادة توزيع الجهد العسكرى الأمريكى على أسس مختلفة تعتمد اللامركزية، أى التركيز على المقاطعات وليس على الأمة بأسرها. أما الجهد الأساسى فيجب أن يتوجه إلى النواحى الدبلوماسية على مستويين، مستوى العلاقات مع حكام المقاطعات فى الداخل، ومستوى العلاقات مع الدول الإقليمية المهمة فى الخارج، على أن يكون هدف المستوى الداخلى دعم اقتصاد أفغانستان الذى أصبح ينمو بمعدل 15٪ سنويا، وهو أعلى معدل نمو بالعالم.
ومع ذلك ينبه كيسنجر إلى أهمية المستوى الثانى، أى المستوى الخارجى. أراه اهتماما منطقيا يعتمد على خلفية كيسنجر الأكاديمية وأسلوبه الذى اتبعه فى رسم وتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية فى مرحلة الانفتاح.
على الصين فتح قنوات اتصال مع الاتحاد السوفييتى. يذكرنا كيسنجر فى مقاله الأخير بقصة بلجيكا المألوفة، حين قرر زعماء أوروبا فى عام 1830 إقامة دولة تحت هذا الاسم تكون محايدة وتحترم دول أوروبا حيادها وتضمن عزلها عن خلافات دول وسط القارة وكلها ساع إلى موطئ قدم على ساحل الأطلنطى وقريبا من طرق التجارة إلى ومن العملاق المقيم على الضفة الأخرى من المحيط.
استنادا إلى التجربة البلجيكية يدعو كيسنجر الولايات المتحدة إلى إقامة مجلس فى آسيا أقرب ما يكون شكلا إلى مجلس أوروبا الذى أنشأ بلجيكا 1830، تكون مهمته إقرار حياد أفغانستان وعزلها عن خلافات الدول المحيطة بها أو القريبة منها، وتشترك الدول الأعضاء فيه فى تنمية ثروات أفغانستان بشرط الالتزام بقواعد ومبادئ تمنع هذه الدول من الدخول فى صراع «استعمارى» جديد على استغلال الثروات الأفغانية التى جرى مؤخرا الاعتراف بوجودها بكميات هائلة.
إذا توصل جيران أفغانستان مع الولايات المتحدة لاتفاق من هذا النوع، يمكن عندئذ، وعندئذ فقط، تصعيد الحملة العسكرية ضد الطالبان لأنها تكون قد ضمنت الشرعية والدعم من خلال التوافق الإقليمى الجديد.
بارع هذا الرجل، ليس بسبب التحليل الذى قدمه عن أفغانستان وموقعها بالنسبة لصراعات آسيا الناشبة والمحتمل نشوبها، ولكن لقدرته الفائقة على تسريب ملامح مشروع استراتيجية جديدة فى القارة الآسيوية، تضمن على الأقل لأمريكا دورا مشاركا مع أدوار قوى أخرى، بعد أن كان لها الدور الأوحد أو الأعظم.