أثبت اتفاق المصالحة مع تركيا مرة أخرى أن بنيامين نتنياهو هو أحد السياسيين النادرين لدينا. فهو بخلاف الكثير من وزراء المجلس الوزارى المصغر، يعرف الشىء الأساسى الذى يجب معالجته. وعلى عكس العديد من زعماء المعسكر القومى، فهو لا يفكر بمصطلحات شعبوية مثل الكرامة الوطنية والإهانة الوطنية. وبخلاف كثيرين من زعماء اليسار، الذين كانت ردود فعلهم على الاتفاق مخجلة، فإن رئيس الحكومة لا يتحدث بصوت عالٍ عن السلام. وحدهم الذين ينتقدون نتنياهو بشدة من امثالى مضطرون إلى التعبير عن تقديرهم للحكمة وبعد النظر، والمسئولية والشجاعة التى أظهرها أخيرا.
بيد أن الاتفاق ليس من دون سياق. موفد السلام الذى زار القاهرة منذ وقت قليل وحاول أن يحصل على انتقادات من الرئيس المصرى ضد نظيره الإسرائيلى لم ينجح فى مسعاه. حيث يقدم نتنياهو نفسه بصفته حليفا للسنة فى حربهم ضد الشيعة، ويحصل على دعم إقليمى لا يستهان به. ليس هناك أدنى شك فى أن نتنياهو نجح فى إدارة الحصانة الاستراتيجية لإسرائيل: المحافظة على الأمن الحالى والامتناع عن الدخول فى حروب لا لزوم لها. لكنه فعل أكثر من ذلك: فقد نسج شبكة علاقات مع الشرق الأوسط ومع دول حوض البحر الأبيض المتوسط حولته إلى صديق مقرب وسرى إلى العالم العربى.
لكن فى مقابل نجاحات نتنياهو الملحوظة مع العرب يبرز فشله الذريع مع الغرب. ففى سنة 2012 لم ينجح فى قراءة الخريطة الأمريكية وراهن رهانا فاشلا ومعيبا على «ميت رومنى». وفى سنة 2015 لم يقرأ الخريطة الأمريكية وراهن بصورة فاشلة ووقحة على أن يقوم الكونجرس الجمهورى بكبح الرئيس الديموقراطى ويوقف الاتفاق النووى مع إيران. ومنذ سنة 2009 حتى اليوم فشل فى قراءة الخريطة الأوروبية، واستخفافه بأوروبا دفع بشبكة العلاقات معها إلى أزمة خطيرة.
حاليا يوشك نتنياهو على دفع ضريبة مزدوجة على مجمل هذه الأخطاء. فمن جهة يستعد باراك أوباما على العمل جنبا إلى جنب مع الأوروبيين من أجل تمرير قرار فى مجلس الأمن سيكون من الصعب على إسرائيل التعايش معه. ومن جهة ثانية لن تحظى إسرائيل بالمزيد من التعاون الاستراتيجى الوثيق مع الولايات المتحدة المطلوب من أجل ضمان قوتها. وفشل نتنياهو إزاء الغرب من شأنه أن يلحق ضررا كبيرا بالحصانة السياسية والأمنية لإسرائيل.
وهنا يطرح السؤال: ما الفارق بين نتنياهو مع العرب ونتنياهو مع الغرب؟ ولماذا سياسى حقق نجاحا فى الشرق الأوسط، فشل أكثر من مرة فى شمال الأطلسى؟
الجواب هو: روح الزمن.. نتنياهو منقطع تماما عن روح الزمن. نتنياهو ابن البروفسور بن تسيون هو فى قرارة نفسه من العصر الفيكتورى وينتمى إلى القرن التاسع عشر، هو يحب كثيرا التكنولوجيا المتطورة لكنه لا يتبنى قيم القرن الحادى والعشرين. فى أعماق نفسه يفضل تلميذ توماس هوبز [ 1588ــ1679 عالم رياضيات وفيلسوف من القرن السابع عشر] الاستقرار على الحرية، والعظمة على العدل، والقوة على الحقوق، لذلك نراه مرتاحا أكثر برفقة فلاديمير بوتين مما تكون عليه حاله برفقة أوباما، ونراه يتعامل مع الحكام الطغاة (العرب والروس والصينيين والأتراك) بصورة أفضل من تعامله مع قادة ديمقراطيين منتخبين.
ومن الأمور التى تبعث على السخرية أن نتنياهو ليس رجل سلام، لكنه اليوم قريب من العديد من جيراننا العرب أكثر بكثير من أنصار السلام المعروفين. نتنياهو خريج جامعة MIT فى بوسطن ولكن لا علاقة له ببوسطن كما هى فى زمننا الحالى. وبينما يربطنا زعيمنا المتحدث بالإنجليزية بالعالم العربى بصورة غير مسبوقة، فإنه أيضا يبعدنا عن العالم الحر بصورة غير مسبوقة وخطرة.