خلال زيارته لوزارة الدفاع الأمريكية ــ البنتاجون ــ وجه وزير الحرب الاسرائيلى إيهود باراك انذارين عسكريين. الأول إلى لبنان والثانى إلى الولايات المتحدة.
فى الانذار الذى يتعلق بلبنان، أعلن باراك اعتبار حزب الله والحكومة اللبنانية واحدا. ليقول إن الحرب على أى منهما هى حتما حرب على الآخر. بمعنى أن اسرائيل لم تعد تفرّق بين حزب الله كقوة مقاومة أهلية، وبين الدولة اللبنانية. فكلاهما مسئول فى نظره عن أى تدهور أمنى، وكلاهما سيكون فى ضوء انذاره هدفا للعدوان الاسرائيلى. لا فرق بين المواقع العسكرية لحزب الله..ومواقع الحكومة اللبنانية فى بيروت. ولقد استند باراك لإطلاق هذا الانذار الحربى المباشر إلى المبررات الآتية:
أولا: أن حزب الله عضو فى الحكومة اللبنانية، وهو شريك فى صناعة قراراتها.
ثانيا: أن المسئولين فى الدولة اللبنانية يرددون شعار «وحدة الجيش والمقاومة والدولة»، ويتصرفون على هذا الأساس أيضا.
ثالثا: أن تعزيز ترسانة حزب الله من الأسلحة وخاصة من الصواريخ تتم بمعرفة الدولة اللبنانية. وهو أمر يتناقض كما يقول باراك مع الالتزامات التى نص عليها قرار مجلس الأمن الدولى 1701.
من المعروف أن إسرائيل عندما تقرر العدوان تبحث له عن مبررات وتختلق له الأسباب. هكذا عملت فى عام 1978 عندما اجتاحت الجنوب واحتلته بحجة إبعاد فصائل المقاومة الفلسطينية عن المستعمرات اليهودية فى شمال فلسطين المحتلة، ثم فى عام 1982 عندما احتلت حتى العاصمة بيروت بحجة الانتقام من محاولة اغتيال سفيرها فى لندن على أيدى المقاومة الفلسطينية. وكذلك فى عام 2006 عندما دمرت البنية التحتية للاقتصاد اللبنانى بحجة الرد على عملية المقاومة اللبنانية أسر جنديين اسرائيليين.
أما مشروع العدوان القادم والذى يعلن مسبقا عنه فإنه يؤسس على المبررات الثلاثة التى تحدث عنها باراك فى واشنطن. من هنا الاعتقاد بأن إسرائيل تحاول الحصول على ضوء أخضر من الولايات المتحدة على غرار ما حدث فى كل الاعتداءات السابقة. ولكن يبدو أن اعطاء هذا الضوء أو حجبه، يتوقف إلى حد بعيد على طبيعة التطورات المتعلقة بالملف النووى الإيرانى وموقف واشنطن منه بعد استنفاد مفاعيل ورقة الحظر المالى والاقتصادى على إيران والذى تجاوز الحدود التى أقرها مجلس الأمن الدولى.
أما الإنذار الثانى الموجه إلى الولايات المتحدة فإنه يتعلق بموضوع تعزيز القدرات العسكرية للجيش اللبنانى.لقد شكت قوات الأمم المتحدة ــ اليونيفيل ــ من أن عدد قوات الجيش اللبنانى فى الجنوب قليل جدا، مما يعطل عمليات التنسيق معها. الأمر الذى أدى إلى الاضطرابات التى عصفت بالعلاقات بين هذه القوات وأهالى بعض القرى.
وشكت وزارة الدفاع اللبنانية من أن السبب فى عدم إرسال أعداد إضافية يعود إلى نقص فى الآليات والمعدات وليس لأى سبب آخر.يشير هذ الأمر إلى الحاجة الماسة للجيش اللبنانى للتجهيز العسكرى المتطور. والولايات المتحدة التى تعرف هذا الأمر جيدا وعدت بتقديم المساعدات اللازمة. إلا أن اسرائيل عارضت بشدة. وجاءت زيارة وزير الحرب الإسرائيلى لترفع من مستوى هذه المعارضة.
يقوم التبرير الإسرائيلى على قاعدة الزعم بأن الأسلحة التى يحصل عليها الجيش اللبنانى ستؤول إلى المقاومة. وأن الولايات المتحدة بذلك تسلح حزب الله بصورة غير مباشرة. وهذا يعنى أنه طالما أن هناك تفاهما بين الجيش اللبنانى والمقاومة، فإن إسرائيل سوف تمارس الضغط لمنع أو على الأقل لتحديد المساعدات العسكرية كما ونوعا. فغايتها السياسية ــ العسكرية هى ضرب هذا التفاهم لإشعال الفتنة الداخلية. ولكن إذا استمر التفاهم قائما فإنه يشكل مع التسلح بالمنطق الإسرائيلى خطرا على أمن إسرائيل وعلى مصالحها.
ولذلك فإن لبنان يفضل اللا تسلح على الوقوع فى حبائل هذه الفتنة. فالتفاهم أولا. وكل ما عدا ذلك تفاصيل. ثم إن هناك أبوابا عديدة أخرى للحصول على المساعدات العسكرية من دون شروط، وبصورة خاصة من دون شرط فك الارتباط بين الجيش والمقاومة والذى تريده إسرائيل وتسعى إليه.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تستجب لطلب وزير الحرب الإسرائيلى باراك، فإنها لم تستجب أيضا لكل ضرورات التسليح التى يحتاجها لبنان. فالولايات المتحدة تدرك أن عدم تسليح الجيش اللبنانى يزيد من إضعافه، ويالتالى يجعل من حزب الله المجهز جيدا والمدرب جيدا أيضا، القوة العسكرية الأشد فعالية فى مواجهة الاحتلال والتصدى للاعتداءات الإسرائيلية.
لقد كشفت المطالب التى قدمها إيهود باراك إلى الإدارة الأمريكية عن أن إسرائيل تريد أن يكون لبنان إما فى حالة صدام بين الجيش والمقاومة، وعند ذلك لا تمانع فى تسليح الجيش، وإما أن يكون بلا مقاومة، وبجيش غير مسلح. وفى هذه الحال تتولى إسرائيل ضرب المقاومة، وتتولى الولايات المتحدة ضبط تسليح الجيش.
عمليا ترفض إسرائيل الانسحاب من الأراضى اللبنانية المحتلة بما فى ذلك مزارع شبعا وقرية الغجر. وتخرق قرار مجلس الأمن رقم 1701 فى البر والجو والبحر. وتواصل إغراق لبنان بالتهديدات العدوانية وهى فى حد ذاتها خرق للقرار 1701 أيضا.
وعمليا أيضا، تسعى إسرائيل لتجريد لبنان ليس من المقاومة فقط، انما من سلاح الجيش، وفوق ذلك من سلاح الوحدة الوطنية. أى أنها تريد أن تعيد لبنان إلى الوضع المأساوى الذى كان عليه فى عام 1982 سواء بغزو عسكرى جديد أو بهيمنة معنوية جديدة.
وعشية وصول وزير الحرب الإسرائيلى إلى واشنطن سبقه اليها تصريح رئيس أركان الجيش الإسرائيلى الجنرال اشكنازى الذى أطلق أول قذيفة معنوية على الجبهة الداخلية اللبنانية. فقد وصف القرار الظنى فى جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريرى المتوقع صدوره مطلع الخريف المقبل بأنه الفتيل الذى سوف يشعل الفتنة فى لبنان. وبالنسبة لإسرائيل فإن ما يمكن تحقيقه من خلال إشعال الفتنة يتكامل مع ما يجب تحقيقه من خلال العدوان العسكرى.
تسلط هذه القضية بأبعادها اللبنانية ــ الأمريكية ــ الإسرائيلية المحدودة، الضوء على القضية الأوسع وهى قضية الصراع العربى ــ الإسرائيلى وموقف الولايات المتحدة منها. فقد اكتشفت واشنطن أو لعلها بدأت تكتشف، استحالة التوفيق بين تأمين مصالحها الإستراتيجية فى المنطقة بما فى ذلك مصالحها الأمنية، والاسترضاء الأعمى لإسرائيل. حتى إن كبار العسكريين الأمريكيين الذين كانوا شهودا على سقوط آلاف الضحايا من جنودهم فى العراق وأفغانستان، بدأوا يرفعون الصوت عاليا ضد الاستمرار فى اتباع هذه السياسة. وكان الرئيس الأمريكى باراك أوباما أوحى فى الخطاب الذى ألقاه أمام جامعة القاهرة أن ادارته الجديدة قد تعلمت الدرس.
وأنها لن تقع فى خطأ تجاهل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى وفى خطأ استعداء العالم الإسلامى، وحاول فعلا أن يفتح صفحة جديدة. ولكن اللوبى الصهيونى الأمريكى استطاع أن يلوى يده. وتعكس وقائع زيارة رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو الأولى والثانية إلى واشنطن هذا الواقع المرير. فبعد أن كان أوباما يضغط على نتنياهو، أصبح نتنياهو هو الذى يضغط عليه. وقد جاء إيهود باراك إلى واشنطن الآن ليقطف ثمار الإذعان إلى هذا الضغط.
من هنا يبدو واضحا الترابط المباشر بين الإنذارين اللذين وجههما وزير الحرب الإسرائيلى من على منبر البنتاجون من جهة أولى، وبينهما والموقف الأمريكى من قضية الصراع فى المنطقة. فالقاعدة القديمة تتجدد دائما مع مواقيت الانتخابات الرئاسية أو انتخابات مجلسى الكونجرس (الشيوخ والنواب). حيث تتغلّظ عصا اللوبى الصهيونى..وتنحنى رقاب المعارضين للغطرسة الاسرائيلية فى البيت الأبيض.