الكتابة النسائيّة والمَنفى: اغتراب أم هويّة رماديّة؟ - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 9:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكتابة النسائيّة والمَنفى: اغتراب أم هويّة رماديّة؟

نشر فى : الأربعاء 1 أغسطس 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 أغسطس 2018 - 9:10 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة المغربية «فاطمة واياو» حول التحديات التى يواجهها المغتربون خارج الوطن والتى من أبرزها اللغة، فاللّغة فى المنفى هى ــ بشكل أو بآخر ــ ملاذٌ للاحتماء ووسيلة للسيطرة على واقعٍ مرير يتّسم بالتمييز وبالاغتراب.
بداية تتساءل الكاتبة قائلة: من أين أبدأ الحديث عن منافىّ المتعدّدة، منذ البدايات الأولى، رحيل فى الطفولة الأولى، رفقة العائلة للّحاق بالأب؟ رحيل فى سنّ السابعة من اللّغة الأمّ إلى اللّغة المُتبنّاة فى المدرسة؟ رحيل من أجل الدراسة، رحيل من أجل العمل؟ ورحيل من أجل الحبّ والاستقرار ولكن أيضا للاستكشاف والبحث؟ فى كلّ هذه الرحلات إحساس بالمغادرة والفقد وإحساس ببهجة الاستقبال، أحاسيس متضاربة، لكنّها شكّلت شخصيّة مفرطة الحساسيّة تجاه كلّ ما يمت بصلة إلى الهويّة. فالمنفى والاغتراب هما دائما رديفا الهويّة والانتماء.
بروكسل كمحطّة مهّمة فى رحلتى، ومكان للاستقرار وليس للنفى، تشكِّل فى مخيّلتى مكانا أليفا وغريبا فى الآن عينه. فالمدينة تتميّز بتعدّدية نادرة، ومتناقِضة فى الآن عينه، فهى تشكّل غنى العاصمة البلجيكيّة، ولكن أيضا عنفها وحدّة انفعالات سكّانها.
منذ أن تعرّفت إلى مدينة بروكسل، أَسرتنى ساحتها الجميلة العريقة، وبناياتها الشامخة والصامدة فى وجه قنابل الحربَين العالميّتَين. كان اللّقاء ببروكسل للسياحة والاستكشاف، وهو إحساس مُختلف عن لقائى بها للإقامة. لم ينقص عشقى لها، ولكنّ هذا الإحساس امتزج ببعض المرارة من واقع سياسى، واجتماعى وثقافى يحاول الصمود فى وجه متقلّبات الهجرات المتعدّدة والمُختلفة وإكراهاتها، فى محاولةٍ لفرض تعدّدية يبدو أنّها تسير نحو الانفجار.
لكن ألا يُمكن القول إنّ كلّ المجتمعات الرأسماليّة هى مجتمعات اغتراب ومنفى؟، ألا يُعتبر مصير الفرد فى هذه المجتمعات واحدا، أى الشعور بالغربة؟ ألا يُمكن القول إنّ تجارب المُبدعات والمُبدعين هى جزء من التجارب الإنسانيّة بعامّة، وإنّ الشعور بالاغتراب هو شعور إنسانى مُعاصر أينما حللنا وحيثما ارتحلنا؟
منذ إقامتى هنا اختيارا وليس قسرا، لم أشعر بالغربة ربّما بفعل طبيعة بروكسل المتعدّدة ثقافيّا، وبفعل اندماجى الأكاديمى والعائلى بسرعة. إلّا أنّ إحساسا داخليّا لم يفارقنى حتّى عندما كنت بين أهلى وفى أرضى الأولى. ذلك الإحساس بالضياع وبعدم الرضا. إنّ عَولمة النظام الرأسمالى جعلتنى أعيش المشاهد نفسها فى بلادى الأولى، مشاهد الفقر والفروقات الطبقيّة، بخاصّة بعد ظهور الأزمة الماليّة سنة 2008. فضلا عن وجود أعداد هائلة من المُهاجرين السرّيين، من أوروبا الشرقيّة وإفريقيا والمغرب العربى، وأخيرا، بسبب الأزمة السوريّة المتمادية، اللّاجئين السوريّين، حيث كثرت مظاهر التسوّل التى أقلقت صورة العاصمة الأوروبيّة، من دون أن ننسى الهجرات الأوروبيّة من إسبانيا، وإيطاليا بعد الأزمة التى عصفت بهذَين البلدَين.
رحلة بين لُغتَين أيضا
مفارقة أخرى هى رحلتى بين لغتَين، البحث الأكاديمى بالفرنسيّة والكتابة بالعربيّة، وهنا تحضرنى معركتى اللّغوية، فقد ارتبطت اللّغة عندى بالنفى والهجر، النفى اللّغوى الأوّل، حينما كنتُ ما أزال فى أرضى الأولى، فعشتُ نهارى بلغةٍ وعشتُ مساءاتى بلغةٍ أخرى. منذ الطفولة، كان التمزّق واندفاع الأسئلة عن ماهيّتى اللّغوية، لهجة بيتيّة تعنى لى الدفء والحنان والشاعريّة، ولكنها منبوذة فى الخارج، أى فى المدرسة والشارع. وأيضا لغة الضّاد التى أحببتها، ليس بفضل المدرّسين فقط، ولكن أيضا بفضل المكتبة المنزليّة التى غلب عليها الطّابع العربى. حينما أتأمّل فى هجرتى الآن، أجدنى لا أشعر بتمزّقٍ لغوى؛ فقد خبرته فى أقسى صوره فى طفولتى، وفى وطنى. ولأنّنى نشأتُ على ألسنة مختلفة، فإنّ الاندماج اللّغوى لم يشكّل عائقا، بل كان ثراء أهّلنى لاكتساب ذهنيّة منفتحة، عقلانيّة، لا تعرف الطابوهات، كلّ شىء قابل للتفكّك والتحلّل. لا شىء يأسرنى إن لم يكُن مُقنعا.
الترحال كان ولا يزال عنوانا لمسيرتى الشخصيّة الإبداعيّة.. الترحال يتّخذ عندى أبعادا مُتشابكة ومتشعّبة، الرحيل فى الذات، الرحيل فى اتّجاه الآخر، الرحيل بكلّ تجليّاته الجغرافيّة والثقافيّة بهدف استكشاف الهويّات المُختلفة، ولكن أيضا هويّاتى المتعدّدة. الإنسان الذى يحمل حساسيّة مفرطة، وقلقا دائما يظلّ دائم الترحال على الرّغم من سكون جسده واستقراره.
متاهات النفى والغربة
إنّ انشطارَ ذات المُبدع، تفضى به إلى متاهات النفى والغربة، مهما كان مستقرّه مريحا وهادئا، فأنا أحمل قلق السؤال، ليس بسبب هجرتى، ولكن بسبب حساسيّتى وتفكيرى. عقلٌ يأبى أن يسلّم بالمسلّمات ويقبل بالبديهيّات. وانشطارُ ذاتى بين عالمَين أو ربّما عوالِم منذ الطفولة إلى حاضرى.
تراكمت فىّ كلّ عوامل الاغتراب بفعل انشطار الأزمنة والأمكنة فى داخلى بين حاضرٍ متردّد مجلوب بهواجس الخوف، وماضٍ لا يشكّل حنينا فى داخلى بفعل عوامل الرفض المُتراكمة، وبين مستقبلٍ مجهول يزداد غموضا بفعل الأحداث العالميّة المتّسمة بالعنف والتردّى. وإذا كان الاغتراب يتحدّد وفق متغيّرات موضوعيّة يمكن إجمالها فى: الجنس، طول فترة الهجرة أو قصرها، الحالة الاجتماعيّة والمستوى الدراسى، فإنّه يتقاطع أيضا مع الغربة، والتى لا تصل إلى قساوة الاغتراب، لأنّ هذه الأخيرة تحمل معنى الاغتراب الذى قد يحدث فى أى مكان وزمان وليس فى المنافى أو المَهاجر فقط.
وتضيف الكاتبة أن المُبدعة الأنثى هى بطلة الهروب سواء بالعزلة، بالترحال أم بالغياب ــ وهو ليس رديف الموت دائما ــ أم بالتنكُّر؛ وهو لغة إبداعيّة أحسنت مُبدعات كثيرات إتقانها. فقد تتنكّر المُبدعة وراء اسمٍ مُستعار أو لغة أخرى غير لغة الأمّ التى هى فى الوقت نفسه لغة الرقيب – الرجل، أى السلطة الذكوريّة والعشيرة أى السلطة السياسيّة. فاللّغة فى المنفى إذن، هى بشكل أو بآخر ملاذٌ للاحتماء ووسيلة للسيطرة على واقعٍ مرير يتّسم بالتمييز وبالاغتراب. تعلّمت أن لا فرق بين البقاء فى اللّغة الأمّ أو الهجرة إلى لغة المنفى، الإبداع اللّغوى، هو الذى يجعل لغة الكتابة قريبة من النفس ومن الوجدان، اللّغة وسيلة تواصل وتعبير، وهى رابط إنسانى نستطيع من خلال رمزيّتها أن نعبّر عن دواخلنا. تستحيل اللّغة أيضا منفى أو هى وطن جديد مُحتضن للمُبدعة. تصبح لغة الآخر متأرجحة بين كونها وطنا أو منفى، ألم يُعلن مالك حدّاد أنّ اللّغة الفرنسيّة هى منفاه، وعلى النقيض من هذا الرأى يصرخ جابرييل أوداسيو قائلا إنّ «اللّغة الفرنسيّة هى وطنى»؟ غير أنّ اللّغة بالنسبة إلى المُبدعة هى أكبر من مجرّد هروب لمنفى أو سكن فى وطنٍ بديل، إنّها وسيلة للتخفّى والتستّر من مُجتمع ذكورى رقيب، إنّها صدرٌ أرحب يحتوى العقل والجسد معا لتُصبح المُبدعة متحرّرة من قيود الفحولة والذكورة البلاغيّة قبل القانونيّة.
لكن، ما يُمكن التنبيه له، هو أنّ اللّغة، أى لغة، هى فى الأساس لغات ذكوريّة، كرّست قيَم الفحولة ما قد يجعلها غير طيّعة للتعبير الأنثوى وللتفكير النسوى، وهو أمر بديهى، لأنّ تاريخ اللّغات العالميّة والآداب العالميّة، هو تاريخ ذكورى بامتياز، كانت النساء مقصيّات منه. كما أنّ النقاد الرجال أبدعوا قواعد بلاغيّة فحلة بعيدة عن كلّ ما هو أنثوى. من هذا المنطلق فإنّ غربة المُبدعة واغترابها هو اغتراب ونفى داخل اللّغة سواء غادرت الوطن أم ظلّت حبيسة جدرانه ورقابته الصارمة.
لكن لماذا يطرح السؤال عن علاقة المُبدع باللّغة أو باللّغات التى تسكنه، لماذا أكتب بهذه اللّغة وليس تلك؟ لعلّ مثل هذا الاستفهام يتّخذ أبعادا عميقة حين يطرح على كاتبة تكتب بلغة البلد المستقبل أو بلغة المنفى. ربّما أنّ الكاتبة الجزائريّة آسيا جبّار أصابت حين أعلنت أنّ جسدها يتحرّك بحرّية أكبر حين تكتب بالفرنسيّة، هذه اللّغة التى تحجب الرؤية عن ذكور عشيرتها، هكذا تصبح اللّغة الأجنبيّة عند آسيا جبّار وسيلة للتحرّر من قيود المجتمع الذكورى. وهنا يحضرنى ما ذهب إليه المفكّر العبقرى إدوارد سعيد فى أنّ الكتابة هى مكان للعيش للّذى لم يعُد يملك وطنا بمعناه الهويّاتى والانتمائى خارج كلّ الحدود المكانيّة.
هكذا يتّخذ المنفى خصوصيّة فى الكتابات النسائيّة، تتمثّل فى تجاوزه الأمكنة؛ فالمُبدعة العربيّة، كما المرأة العربيّة، تعانى الاغتراب والنفى أينما وُجدت وحيثما ارتحلت، تلاحقها لعنة الغربة واللّهاث المستمرّ نحو هويّة حقيقيّة لا تلغيها ككائنٍ إنسانى أوّلا وكمُبدعة أنثى ثانيا. وهذه حقيقة تعطى كلّ الشرعيّة لتصنيف كتاباتها بالنسائيّة ولما لا بالنسويّة حينما تروم مُعانَقة القضايا المصيريّة للنساء.
ولأنّى امرأة الهجرة والاكتشاف بامتياز، فإنّنى فى محطّتى الأخيرة هذه اخترتُ الرحيل بشكل أكثر جذريّة، وذلك بالانتقال من ثقافتى العربيّة والفرنكفونيّة إلى استكشاف التفكير الأنجلوسكسونى والاستمرار فى مسيرة البحث، الذى كان عنوانا عريضا لرحلتى الحاليّة إلى إسكوتلاندا، التى هى ليست مَوطن المفكّرين والعباقرة من المُخترعين فقط، بل هى عبق التاريخ حيث تزخر بآثار عديدة تشهد على مجدٍ تاريخى يصرّ الأحفاد على الحفاظ عليه. وفى النهاية أعيد تجربة النفى اللّغوى الآخر أو ربّما الأخير من خلال اللّغة الإنجليزيّة.
وعلى سبيل الخِتام تردد الكاتبة ما قالته جوليا كريستيفا فى مقالها الشهير «زمان النساء: الكتابة مستحيلة من دون بعض من المنفى»، من هنا فإنّ قضايا كثيرة ستظل رهينة السؤال، وإنّ أجوبة أكثر عمقا يستدعيها موضوع الكتابة النسائية والمنفى، ربما تجد يوما طريقها للتحليل والدراسة ولِما لا؟ لأجوبة مقنعة.
النص الأصلى:

التعليقات