أتذكر أننى سألت وأنا صغير لماذا لا يستطيع الإنسان الذى لا يسمع أن يتكلم رغما عن أن آلة الكلام عنده سليمة: فكانت الإجابة لأنه لم يسمع كلاما كى يستطيع أن يتفاعل معه ويستخدمه. لا أعرف إن كانت هذه هى الإجابة الصحيحة لسؤالى أم لا، لكن المهم أن دارسى الثقافة السياسية وصلوا لنتيجة مشابهة: من لم يعش فى ظل دولة مؤسسات لها تقاليد واضحة وقواعد آمرة، فلن يعرف معنى الالتزام بها لأنها ببساطة غير موجودة فى ذهنه حتى وإن كانت موجودة على الورق. بعبارة أخرى، المؤسسات تخلق الثقافة التى تضمن بقاءها وتطورها. وهذا ينطبق على المؤسسات المنتخبة، والمؤسسات الخدمية، وكذلك المؤسسات الأمنية.
الشلل الذى تعيشه مصر الآن فى معظم مؤسساتها يعود إلى أننا اكتشفنا فجأة أننا لم تكن تحكمنا مؤسسات بقدر ما كانت تحكمنا تنظيمات بيروقراطية تابعة للحزب الوطنى المنحل بلا تقاليد تحترم أو قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها ولا يجوز التساهل مع تجاهلها.
لا أعرف إن كانت هذه هى مسئولية نظام مبارك فقط، ولكن لا شك أنه ورجاله عمقوا شعور المصريين بأن القوانين موجودة كى تخترق وأن القانون يطبق فقط على الأضعف. وبما أن الشعب انتفض فهو الآن الأقوى، ولا بد من أن يفرض إرادته على الآخرين بما فى ذلك تلك التنظيمات الشكلية. وهكذا وجدنا هذا المشهد المتكرر: مجموعة من قيادات النقابات العمالية المنحلة تصارع ضد مجموعة أخرى طالما اعتبرت أنها قيادات باعت نفسها للحزب الوطنى، مجموعة من القضاة تصارع ضد مجموعة أخرى من القضاة بشأن من له حق اقتراح قانون السلطة القضائية الذى طالما نادى به الجميع، مجموعة من مشايخ الطرق الصوفية تصارع ضد بقية الطرق الصوفية بشأن حل المجلس الأعلى للطرق الصوفية، مجموعة من أساتذة الجامعة تصارع ضد مجموعة أخرى من أساتذة الجامعة بشأن طريقة انتخاب القيادات الجامعية، وهكذا.
إذن فيض النيل عاجز عن أن تستوعبه ضفاف النهر، فحدث فيضان مؤقت. وفيض المشاركة المجتمعية والسياسية ارتفع بما لا تستوعبه المؤسسات القائمة لأنها أصلا ليست مؤسسات بقدر ما هى هياكل تنظيمية شكلية تابعة للحزب الحاكم سابقا ورجاله، فيحدث هذا الاضطراب.
ومع ذلك أنا على يقين أن الأمور سائرة آخر الأمر إلى خير. قال لى صديق أمريكى متخصص فى شئون إندونيسيا، إن مصر ستواجه عدة سنوات فيها هذا الاضطراب حتى تستقر الأمور كما حدث فى إندونيسيا، ولكن أظن أننا سنبدأ نشعر بالتحسن مع الانتخابات التشريعية وبناء مؤسسات الدولة الجديدة.
ولنتذكر أننا أسقطنا التنظيمات التالية: الدستور، الرئاسة، الحزب الوطنى، مجلس الوزراء، أمن الدولة، مجلس الشعب، مجلس الشورى، المحليات، النقابات العمالية، فضلا عن النقابات المهنية التى كانت قد فقدت مشروعية وجودها بحكم المحكمة الدستورية قبل الثورة مباشرة. وكانت عملية الإسقاط متدرجة وغير متزامنة على أمل أن يتم استيعاب النتائج غير المتوقعة لحل كل تنظيم من هذه التنظيمات. وها هى مقدمات عملية إصلاح جادة تبدو فى مؤسسات القضاء، والتعليم العالى، وقانون الأحزاب الجديد الذى يسمح بإنشاء الأحزاب بالإخطار، وانتخابات نقابية مرتقبة فى عدد من النقابات، والمجلس الأعلى للصحافة، وهكذا.
إذن نحن لم نزل نعيش فى توابع الثورة، وقدرة التنظيمات على أن تنفى خبثها وتصحح أوضاعها وترسخ قواعدها حتى تكون «مؤسسات» حقيقية ستحتاج وقتا وجهدا ودفعا من أسفل إلى أعلى. ومع نشأة هذه المؤسسات ستنشأ ثقافة جديدة، هى ثقافة النهضة الحقيقية التى تحترم أننا جميعا لدى القانون بحق سواء.
هذا الكلام ليس محاولة لاصطناع الأمل، وإنما هو فقط «محاولة للفهم».