تدعى إسرائيل أنها تستمد شرعيتها القانونية وسيادتها القانونية على أراضيها Legal Sovereignty من ثلاث وثائق:
1ــ وعد بلفور الذى أصدره وزير خارجية بريطانيا فى 2 نوفمبر 1917 بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين.
2ــ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية.
3ــ اتفاقيات الهدنة التى أنهت حرب 1948.
وفى الواقع أن جميعها أسس واهية لا تصمد أمام التمحيص، فبلفور ــ وزير خارجية بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى ــ لا يملك أن يعطى ما ليس له، وكما كتب عبدالناصر فى رسالته الشهيرة إلى جون كيندى «لقد أعطى من لا يملك لمن لا يستحق»، ولا يمكن أن يدعى السيد بلفور أو بريطانيا أنها استندت إلى صك الانتداب، الذى منحت بموجبه عصبة الأمم المتحدة بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، فميثاق عصبة الأمم الذى أنشأ نظام الانتداب نص فى المادة 22 على «أن ترقية الشعوب الخاضعة للانتداب ومصالحهم هى مهمة مقدسة فى عنق الدولة المسئولة عن الانتداب»، كما نصت المادة الثانية من صك الانتداب على المحافظة على حقوق السكان المدنية والدينية. بل إن الصهاينة أنفسهم أنكروا أن يكون هدف وعد بلفور هو إنشاء دولة يهودية، ومنهم نورمان بنتويتش Norman Bentwich اليهودى الصهيونى، الذى شغل منصب النائب العام فى فلسطين تحت الانتداب، الذى أكد أن «الوطن القومى لليهود المشار إليه National Home» فى وعد بلفور لا يعنى منح حقوق السيادة السياسية بل المقصود هو الجانب الثقافى والفكرى».
أما القرار رقم 181 الصادر من الجمعية العامة فى 29 نوفمبر 1947 بشأن تقسيم فلسطين فلم ينفذ، حيث رفضته الدول العربية واندلعت على إثر ذلك حرب عام 1948 التى استولت «إسرائيل» خلالها على أجزاء كبيرة من المساحات المخصصة للدول العربية.
ولذلك فلا يمكن الاستناد إليه كسند قانونى لقيام إسرائيل، والأمم المتحدة نفسها لا تملك هذا الحق، أى حق منح أراضى لشعب ما أو دولة ما، والوحيد الذى يملك هذا الحق هو الشعب الفلسطينى، الذى يملك حق السيادة على الأرض سواء مارسها أو لم يمارسها. لذلك فقرار التقسيم كان سيستمد شرعيته من قبول الشعب الفلسطينى له.. فى هذه الحالة فقط يصبح ذا حجية قانونية ويكتسب شرعية، أما الأراضى التى انتزعتها إسرائيل من الجزء المخصص للدولة العربية، فهذه قد أخذتها إسرائيل بحق الغزو ولن تحصل على شرعية ضمها إلا بقبول الشعب الفلسطينى، لأن مبدأ عدم شرعية الحصول على أراضٍ عن طريق الحرب يعد من مبادئ القانون الدولى الراسخة حاليا، وقد تم تأكيده فى قرار مجلس الأمن رقم 242.
لذلك فإنه بالرغم من قيام إسرائيل كحقيقة واقعة وانضمامها للأمم المتحدة منذ عام 1947 واعتراف معظم دول العالم بها، إلا أن صك الشرعية القانونية الحقيقى لن يمنحه لها إلا الشعب الفلسطينى. لذلك فإننى أقول إن قبول الشعب الفلسطينى ــ رسميا ــ بقيام دولته على حدود 1967 وقبولها بالأمم المتحدة على هذا الأساس هو الذى يمنح إسرائيل الصك الشرعى لوجودها ليس فقط فى حدود قرار التقسيم بل وبشرعنة ضمها للأراضى، التى انتزعتها من الدولة العربية بموجب التقسيم.
●●●
وبالرغم من ذلك فإننى لا أعارض الخطوة التى اتخذها أبومازن بل أؤيدها تماما.. فما لا يدرك كله لا يترك كله..
فعلينا ألا نحلق فى الخيال.. فهل هناك من يظن بإمكانية اقتطاع أجزاء كبرى من الأراضى الإسرائيلية وضمها إلى الدولة الفلسطينية استنادا إلى أنها كانت جزءا من الدولة العربية بموجب قرار التقسيم.. أفهم أن يكون لدينا هذا الحلم إذا كانت الدولة الفلسطينية هى التى احتلت كامل أراضى إسرائيل وتتفاوض الآن على الانسحاب إلى حدود التقسيم.. إذن فلنهبط إلى أرض الواقع، ونمحص هذه الخطوة بواقعية فنرى أنها تنقل المفاوضات إلى مستوى آخر ــ فلأول مرة سيجلس حول مائدة التفاوض دولتان تتفاوضان حول مشاكل محددة. وهناك قضيتان قد حسمتا ــ على الأقل من ناحية دعم المجتمع الدولى ــ وهما الحدود والقدس.. فكلاهما يشملهما تعبير حدود الرابع من يونيو عام 1967، والأرض لم تعد أراضى متنازعا عليها، بل هى أراضى دولة خاضعة لاحتلال دولة أخرى.. ففلسطين ستجلس لأول مرة حول مائدة التفاوض بدلا من أن تكون بندا فى قائمة الطعام!
●●●
ومن الناحية الإجرائية.. يشترط لقبول عضوية دولة بالأمم المتحدة أن تصدر توصية من مجلس الأمن وقرار من الجمعية العامة.. وقد استعرت المعركة فى مجلس الأمن الآن، حيث تأمل أمريكا ألا تضطر لاستخدام الفيتو، الذى سيسبب لها حرجا بالغا أمام الشعوب العربية خاصة فى ضوء مواقفها المؤيدة «للربيع العربى».. لذلك تحاول جاهدة ألا يتمكن الفلسطينيون من الوصول إلى رقم 9 السحرى، وهو عدد الدول المؤيدة اللازم لصدور قرار من المجلس.. وحتى الآن لدى الفلسطينيين وعود بتأييد سبع دول (خمس غير دائمين بالإضافة إلى الصين وروسيا).. لذا تمارس الولايات المتحدة ضغوطا شديدة على كل من نيجيريا والجابون والبوسنة وهى الدول التى لم تحدد موقفها بعد.. وللأسف كلها دول إسلامية وأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامى (البوسنة لها وضع المراقب).. وعلى أى حال فستمنع الولايات المتحدة صدور القرار إما بعدم حصوله على الأغلبية (كما تفضل) أو باستخدام الفيتو.
وعلى العكس من ذلك فالتأييد للقرار فى الجمعية العامة جارف، ومن المتوقع أن تصدر الجمعية قرارا بتعديل الوضع الفلسطينى إلى «دولة غير عضو مراقب» بدلا من الوضع الحالى الذى يضفى صفة المراقب على «منظمة التحرير الفلسطينية»، وهو وضع مشابه تماما لوضع الفاتيكان فهى دولة (لا أحد يجادل فى ذلك) غير عضو بالأمم المتحدة وتتمتع بوضع المراقب.. وفى اعتقادى أنها نتيجة جيدة فى ظل الإمكانات المتاحة.
●●●
من ناحية ثالثة.. فهذه الخطوة قد أحيت القضية الفلسطينية بعد طول سُبات، وأصبحت باعتراف كثير من المعلقين هى أهم بند مطروح على الأمم المتحدة خلال هذه الدورة، وتسابقت الجهود الرامية إلى إغراء الفلسطينيين بالعودة إلى التفاوض ومكنت الفلسطينيين من اشتراط شرطين يحظيان بمؤازرة عالمية، وهى أن تعلن إسرائيل وقف الاستيطان وأن تعترف بحدود 1967.
وهناك جانب آخر تم تسليط الأضواء عليه، وجاءت النتيجة فى صالح الفلسطينيين، وهو مدى قدرة الفلسطينيين على إدارة دولة، فقد تقدمت عدة جهات بما فيها البنك الدولى وصندوق النقد الدولى بتقارير تشيد بما تم إنجازه وتؤكد هذه القدرة، ولعل أهم هذه الشهادات، والتى كانت مفاجأة لى ــ هى ما كتبه جوناس جارستور وزير خارجية النرويج السابق ورئيس لجنة الاتصال الخاصة بمساعدة السلطة الفلسطينية، فقد كتب يقول:
بالطبع فلسطين تستحق أن تكون دولة بل هى فى وضع أفضل من كثير من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة فقد نجحت فى بناء مؤسسات تعمل بمستوى أفضل من كثير من الدول وذلك فى قطاعات إدارة الموارد والتنمية الاقتصادية والخدمات والأمن والعدالة. وقد نجحت فلسطين فى القضاء على الأمية وأنشأت نظاما جيدا للرعاية الصحية.. وكثير من مؤسساتها يعمل بمستوى يصل إلى مستويات منظمة التعاون الأوروبى O.E.C.D. كما نجحت فى خفض عجز الميزانية من 60% إلى 11%.. (قارن ذلك بالشقيقة الكبرى).
●●●
لقد أدار محمود عباس هذه الجولة بحرفية واقتدار واقترب من قطف الثمار وقد ساعده فى ذلك السياسة اليمينية المتطرفة الخرقاء، التى دفع ليبرمان حكومة إسرائيل إليها بتهديده المتتالى بإسقاط الحكومة، وفى اعتقادى أنه إذا صمد عباس حتى نهاية الجولة فقد نشهد رافدا للربيع العربى تهب نسماته من فلسطين.