ظل موضوع إنشاء محكمة جنائية دولية تتعقب مرتكبى أبشع الجرائم وتحاكمهم وتعاقبهم حلمًا يراود البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وظلت الفكرة تظهر بين الحين والحين ويتناولها الأكاديميون، ويتم تفعيلها أحيانًا من خلال محاكم مؤقتة تنشأ لمواجهة حالة بعينها مثل محكمة يوغوسلافيا السابقة أو محكمة رواندا.
إلا أن هذا الخيال أو الحلم قد أصبح حقيقة واقعة عندما انعقد فى روما المؤتمر الدبلوماسى لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية فى الفترة من 15 يونيو 1998 حتى 18 يوليو 1998 والذى أقر النظام الأساسى للمحكمة الدولية فى وجه معارضة شديدة للولايات المتحدة لإنشاء هذه المحكمة، وقد كان أمرا لافتا أن تعجز الولايات المتحدة تماما عن تحقيق هدفها فى وقت اكتملت فيه هيمنتها على العالم، وبالرغم من وقوف كل من روسيا والصين إلى جانبها فإنه باستثناء هذين القطبين العالميين وبعض الدول الصغيرة التى تدور فى فلك الولايات المتحدة فلم يحظ الموقف الأمريكى بمساندة تذكر، حتى المملكة المتحدة اتخذت موقفًا معارضًا للسياسة الأمريكية - الموضوعية والإجرائية - وقامت بدور نشط فى جهود ترويج النص.
وإزاء هذا الوضع الشديد الانعزال للولايات المتحدة فقد حركت موقفها من موقف الرفض التام للفكرة إلى القبول بشرط إخضاع المحكمة لسلطة مجلس الأمن (عادت الولايات المتحدة إلى موقف الرفض التام فى عهد إدارة الرئيس بوش الابن وسحبت توقيع بيل كلينتون على النص).
نقول أبدت الولايات المتحدة استعدادا للقبول بشرط إخضاع المحكمة لمجلس الأمن وبشرط نبذ فكرة الاختصاص الأصيل للمحكمة، وتقدمت باقتراح "الاختصاص لمن يقبله" ومن التعبيرات الأمريكية التى صيغت فى هذا الصدد تعبير Opt in أو Opt out، أى يكون للدول عند انضمامها الحق فى أن تعلن قبولها أو عدم قبولها لاختصاص المحكمة فى جرائم معينة.
كما طالبت الولايات المتحدة - كثمن لقبولها- النص على اشتراط حصول موافقة دولة الجنسية حتى يتسنى المضى فى إجراءات الدعوى بالنسبة لمواطن الدولة، وذلك بالطبع حماية لجنودها المنتشرين فى مختلف أنحاء العالم، كما رفضت الولايات المتحدة منح المدعى العام سلطة تحريك الدعوى، لكن الأمر انتهى برفض الولايات المتحدة الانضمام إلى المحكمة.
والجرائم التى تدخل فى اختصاص المحكمة هى ثلاث جرائم فقط، وهى:
جريمة إبادة الجنس أو الإبادة الجماعية.
الجرائم ضد الإنسانية.
جرائم الحرب.
أما الجريمة الرابعة فهى جريمة العدوان فقد تم إدراجها مع إيقاف التنفيذ لحين توصل المجتمع الدولى إلى تعريف متفق عليه للعدوان.
• • •
فى كتاب صدر لى عن دار الهلال عام 2003 تساءلت فيه عن إمكانية تحريك الدعوى ضد المسئولين الإسرائيليين بالرغم من عدم انضمام إسرائيل إلى نظام المحكمة.. حيث تحدد المادة (12) الخاصة بالشروط المسبقة لممارسة الاختصاص حالتين اثنتين لممارسة هذا الاختصاص:
أن تكون الدولة التى وقعت فى إقليمها الجريمة طرفا فى النظام أو أن يكون الشخص المتهم من جنسية دولة طرفًا فى النظام. وبالطبع فإن كلتا الحالتين لا توفر الشروط لإقامة الدعوى ضد المسئولين الإسرائيليين.
وقد حاولت بعض الوفود إضافة حالة ثالثة، وهى أن يكون الضحية من رعايا دولة طرف، وقد تصدى أصدقاء إسرائيل، وعلى رأسهم الولايات المتحدة لمعارضة هذا الاقتراح ونجحوا فى هزيمته.. وكان ذلك سيفتح الباب على مصراعيه لكل ضحايا الجرائم الإسرائيلية الذين يتمتعون بجنسيات دول أطراف فى النظام لملاحقة المسئولين الإسرائيليين أمام العدالة الدولية، لقد ظنت إسرائيل أنها نجحت بإيصاد الباب أمام أى فرصة لتوجيه الاتهام إلى مواطنيها، وذلك بعد نجاحها فى إسقاط النص على حق دولة المجنى عليه فى تحريك الدعوى باعتبار أن فلسطين ليست دولة، فهل أفلت حكام إسرائيل من العقاب الدنيوى وآن لهم أن ينعموا بانتصارهم على العدالة الدولية ليس بعد.
فقد أصبحت فلسطين دولة وعضوًا بنظام المحكمة وبمقدور المحكمة الجنائية الدولية أن تمارس اختصاصها تجاه الجرائم المرتكبة فى أراضيها وتوجيه الاتهام إلى مواطنى الدولة الذين ارتكبوا هذه الجرائم حتى ولو كانوا مواطنين دولة ليست طرفًا فى النظام الأساسى للمحكمة.
وقد أكد ذلك المندوب الأمريكى نفسه فقد أعلن السفير شيفير، المستشار القانونى لوزارة الخارجية الأمريكية، فى بيانه أمام الجلسة الأخيرة للمؤتمر وفى معرض تبريره لمعارضة الولايات المتحدة لها ما يلى:
«أنه بموجب النظام الأساسى للمحكمة الذى تم إقراره بأنه سيكون فى مقدورها ممارسة اختصاصها على الدول غير الأطراف، وسيكون ذلك بمثابة انتهاك أساسى لمبدأ قانونى مهم، وهو أن الدول لا تلتزم بمعاهدة ليست طرفا فيها».
• • •
لقد كنت عضوًا بوفد بلادى لدى مؤتمر روما الدبلوماسى الذى وضع النظام الأساسى للمحكمة وتوليت رئاسة الوفد فى معظم مراحل التفاوض، وأذكر أن رئيس وفد السودان السفير والصديق، مهدى مصطفى الهادى، كان يمر على الوفود العربية ويقول لهم ساخرًا: «أنتم فرحانين قوى بالمحكمة.. دى معمولة علشانكم».
وقد تحققت نبوءته فى العقدين الماضيين حيث كان معظم من صدرت ضده أوامر اعتقال من رؤساء الدول النامية، إلا أن إسرائيل -التى تعرف نفسها- كانت قلقة منذ إقرار إنشاء المحكمة وشرع القانونيون فيها فى دراسة أساليب التعامل معها.
وقد كتب أحد المعلقين الإسرائيليين فى جريدة جيروزاليم بوست ويدعى موشى زاك مقالًا تخيليًا يتخيل فيه المنظر اللا معقول -على حد قوله- عن وصول عمدة القدس إلى فيينا فيتم القبض عليه من جانب السلطات النمساوية بتهمة المشاركة فى إقامة مستوطنة بالقدس المحتلة، ويتخيل حوارًا طويلًا يدور بينه وبين سلطات المطار ولكنه يختتم المقال بعدم معقولية تقديم أى يهودى للمحكمة الجنائية الدولية حيث لا يجرؤ أحد على فعل ذلك.
• • •
أنا لا أدرى على أي أساس أقام السيد/زاك حجته بعدم معقولية تقديم أى يهودى للجنائية الدولية، فالمسئولية هنا مسئولية فردية فأى شخص يرتكب جريمة تدخل فى اختصاص المحكمة يكون مسئولا عنها بصفته الفردية وعرضة للعقاب، وفقًا لهذا النظام الأساسى سواء ارتكب هذه الجريمة بمفرده أو بالاشتراك مع آخرين.
ولا شك أن السيد/ زاك ومعظم الإسرائيليين يتساءلون الآن.. كيف جرؤت المحكمة الجنائية الدولية على توجيه الاتهام إلى رئيس وزراء إسرائيل.. شعب الله المختار الذى يجب أن يدفع العالم ثمن الاضطهاد الذى تعرض له إلى يوم تقوم الساعة وكيف يوجه الاتهام إلى أكثر الجيوش أخلاقًا فى العالم، وقد كان هذا هو التساؤل الذى ساد فى أوساط إسرائيل بكل تنوعاتها.. حكومة ومعارضة ويمين ويسار.
وقد لجأت إسرائيل إلى عدة طرق لمواجهة هذا الاتهام.. بدءًا بالاستعانة بالراعية الأولى لها -أمريكا- فقام الكونجرس بإنذار المحكمة وقضاتها بالعقوبات التى ستوقع عليهم.. ثم انتهزت فرصة الأزمة اللبنانية لكى تعترض على أى دور لفرنسا فى مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار ما اضطر فرنسا إلى إصدار بيان بأن نتنياهو يتمتع بحصانة قضائية نظرًا لمركزه كرئيس للوزراء ما يعفى فرنسا من تسليمه للمحكمة إذا وجد على أراضيها..
وقد أثار هذا البيان دهشة واستنكارا لدى الدوائر القانونية فى العالم لأن نظام المحكمة الأساسى واضح جدًا فى نفى الحصانة عن أى فرد مهما علا مركزه.. وقد عدلت فرنسا موقفها مرة أخرى – بعد أن حصلت على موافقة إسرائيل على أن تكون عضوًا فى لجنة مراقبة الهدنة، حيث أصدرت بيانًا تكميليًا للبيان الأول يوضح أن الذى سيقرر فى هذا الأمر هو القضاء الفرنسى وليس الحكومة.
كما لجأت إسرائيل إلى وسائل أخرى لتعطيل إجراءات المحكمة؛ الأولى هى إعلان المدعى العام الإسرائيلى أنه سيقوم بفتح تحقيق فى الاتهامات الموجهة لنتنياهو وجالانت وزير دفاعه السابق، استنادا إلى أن نظام المحكمة يتضمن مادة تشير بأن دورها تكميلى للقضاء المحلى، وأنها لا تتدخل إلا إذا كان القضاء المحلى عاجزًا أو غير راغب فى إجراء تحقيق نزيه وفعال وعاجل فى الاتهامات موضوع الدعوى.
والخطوة الثانية التى أعلنت إسرائيل اعتزامها اتخاذها هى الطعن فى قرار الدائرة التمهيدية للمحكمة.. لكن هذه الخطوة تشوبها عقبة كداء، وهى وجوب ظهور المتهم شخصيا (أى نتنياهو وجالانت) أمام المحكمة حيث لا يجوز التوكيل فيها أو الإنابة.
• • •
أما الولايات المتحدة فقد احتاطت لنفسها بأن أخذت على عدد كبير من الدول تعهدات مكتوبة بألا تلجأ إلى المحكمة الجنائية الدولية وأنها تتعهد بأن تتعامل مع أى خروقات يرتكبها جنود أمريكيون على أراضيها من خلال الاتصال المباشر مع السلطات الأمريكية.
وهناك تساؤل يدور فى الأذهان، فإنه من الناحية النظرية فإن أمريكا وبريطانيا تعدان شريكتين فى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت فى غزة، والمحكمة ليست فى حاجة لكى تقوم دولة برفع دعوى ضدهما فهى تجرؤ على اجتياز هذه العتبة العالية.
أعتقد أنه يكفينا فى المرحلة الحالية ما اتخذ حيال إسرائيل وقادتها، وقد أتاهم الله من حيث لا يحتسبون.