نيويورك.. أكتوبر/ نوفمبر 1967:
فى أكتوبر 1967.. وكنت وقتها عضوا بالوفد المصرى لدى الأمم المتحدة، كنا نستجدى المجموعة اللاتينية أن تعاود تقديم مشروع قرارها الذى قدمته فى الدورة الخاصة للجمعية العامة فى يونيو من نفس العام، ورفضته المجموعة العربية بإباء وشمم بالرغم من أنه كان ينص على الانسحاب من جميع الأراضى العربية المحتلة مقابل شىء واحد فقط وهو «إنهاء حالة الحرب» «End of belligerency»، أى لا اعتراف ولا تطبيع ولا علاقات ولا معاهدات سلام. وقد اجتمعت المجموعة العربية على مستوى وزراء الخارجية لبحث هذا المشروع اللاتينى.
ويمكنك أيها القارئ العزيز أن تخمن بسهولة وعلى وجه الدقة سير المداولات فى هذه الاجتماعات وأساليبها.. خطب بلاغية ملؤها الحماسة والرفض.. رفض كل شىء فى مشروع القرار حتى الفقرة الديباجية التى تشير إلى المادة 33 من الميثاق الخاصة بفض المنازعات بالطرق السلمية.. لأن ذلك فى عرف السيد ماخوس وزير خارجية سوريا فى ذلك الوقت فخا يقودنا إلى التفاوض مع إسرائيل. وتوالى الخطباء.. عبدالعزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر آنذاك والمحجوب وزير خارجية السودان.. كيف تقبل إنهاء حالة الحرب.. كيف نكافئ المعتدى على عدوانه.. وانتهى الاجتماع إلى رفض المشروع اللاتينى جملة وتفصيلا واتخاذ قرار بالتصويت ضده إذا أصر اللاتين على طرحه للتصويت وحث الدول الصديقة على التصويت ضده بل واعتبار إصرار اللاتين على الاستمرار فى طرحه عملا عدائيا.
•••
وجندنا كل قوانا لإسقاط المشروع اللاتينى، وكان الأمر لا يحتاج إلا إلى ثلث الأصوات لكى يمتنع صدور القرار، وبدأت المساعى المكثفة لحشد هذا الثلث ولم يكن الأمر صعبا فأصوات الدول العربية والشيوعية بالإضافة إلى بعض الدول الإسلامية تكفى.
وسقط المشروع اللاتينى وصفقنا جميعا بحماس لسقوطه وبالمثل سقط المشروع العربى لأنه لم يكن من الصعب أيضا على الجانب الآخر أن يوفر الثلث المانع وانفض الجمع وقضى الأمر بأسلوب الرفض. لم يكن هناك تفاوض ولا طرح لبدائل، كانت الأمور فى غاية الوضوح أبيض وأسود.. أعداء وأصدقاء.. مشروع قرار ومشروع مضاد، هكذا كانت روح العصر وانعكاساته على الممارسة الدبلوماسية مما جعل الدبلوماسية المصرية والعربية أبعد ما تكون عن فن تحقيق الممكن.
ثم راحت السكرة وجاءت الفكرة، وأطل علينا أكتوبر من نفس العام 1967 وإذا بمشروع قرار يتم تداوله فى أروقة مجلس الأمن يطالب إسرائيل بالانسحاب من «أراضى» عربية تم احتلالها فى يونيو. مع الاعتراف بحق كل دولة فى المنطقة بما فيها إسرائيل طبعا فى العيش داخل حدود آمنة ومعترف بها.
هرعت المجموعة العربية إلى الاتصال باللاتين لنطلب إليهم ــ على استحياء ــ إعادة تقديم مشروعهم إلى مجلس الأمن، ولكن هيهات.. كان الأمر مختلفا فى يونيو عنه فى أكتوبر. ففى يونيو كان غبار المعارك لم ينقشع بعد ولم تعرف على وجه الدقة ردود الأفعال العربية وآثارها على مصالح الغرب لذا كانت (صيغة إنهاء حالة الحرب مقابل الانسحاب) هى أقصى ما يمكن تحقيقه وفقا للحسابات الغربية فى ذلك الوقت.. أما «الآن» فى أكتوبر/ نوفمبر 1967 فقد استقر الاحتلال وتحددت أبعاد ردود الأفعال العربية، ولم تكن ذات بال. ولذلك فليس هناك سوى القرار 242، لذلك فعندما عرض اللورد كارادون المندوب الدائم البريطانى الذى أعد المشروع على الوفد المصرى عرضه على أساس أن لنا خيارا واحدا بشأنه، وهو إما قبوله كما هو دون تعديل أو رفضه Take it or Leaveit، وبعد إجراء اتصالات مع القاهرة تقرر إرسال المشروع إلى القاهرة مع حامل حقيبة خاص حتى يعود بالتعليمات توفيرا لأقصى قدر من التأمين للمعلومات والتعليمات. وحمل المشروع أصغر أعضاء البعثة فى ذلك الوقت الملحق محمد البرادعى (السفير فيما بعد ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا) وعاد بعد 48 ساعة حاملا تعليمات الموافقة، وصدر القرار تحت رقم 242 فى نوفمبر 1967 وقضى الأمر واستوت على الجودى.
•••
أكتوبر 1973:
وفى أكتوبر 1973 كان المرحوم الدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية يجلس فى مجلس الأمن للرد على الشكوى التى تقدمت بها إسرائيل ضد مصر تتهمها بالعدوان.
بعد رفع الجلسة استدار الدكتور الزيات لأعضاء وفده مبتسما وهو يقول: يا سلام يا ولاد، كلمة العدوان المصرى كانت بتشنف آذانى، 30 سنة واحنا بنولول على حائط الأمم المتحدة ونبكى ونشتكى من العدوان الإسرائيلى، وأول مرة احنا المتهمين وإسرائيل هى التى تصرخ وتشكو.
كان الوضع مختلفا تماما فى 1967 كان السفراء العرب يخرجون هاربين من بدروم الأمم المتحدة حتى لا يخترقوا مظاهرات الاحتفال اليهودية أمام الباب الرئيسى للأمم المتحدة، حيث أقام اليهود حلقات للرقص والغناء احتفالا بانتصارات إسرائيل الباهرة على مصر والأردن وسوريا.