المجتمع فى مصر أعمق من الدولة - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المجتمع فى مصر أعمق من الدولة

نشر فى : الخميس 1 أكتوبر 2015 - 4:30 ص | آخر تحديث : الخميس 1 أكتوبر 2015 - 4:30 ص

كان الشعب يشكو، وكان الرد أن الدولة فى مصر عميقة بل وشديدة العمق، ولعلها الدولة الأعمق بين كل دول العالم. قيل إن المؤسسات مترهلة والأجهزة البيروقراطية على جميع مستوياتها نخر فيها الفساد. أما النخبة السياسية، حسب ردود السلطة وبعض فقهاء السياسة، فمنعدمة الكفاءة وغير قادرة على النهوض بمسئوليات المشاركة السياسية. من ناحية أخرى دأب الحكام على اتهام موظفى الدولة جميعا بالاتكالية والإهمال وعدم الانضباط. قيل عن هذه الدولة العميقة أن فى دهاليزها تتوه المسئولية وتحاك الدسائس وتنسج المناورات وفى خزائنها تدفن المشروعات والأحلام . تعددت النظريات ولم نسمع عن سبب واحد أو أوحد يبرر وجود هذه الحالة، حالة الدولة العميقة. قيل الكثير عن تلوث المنظومة التعليمية من جذورها حتى فروعها وثمارها العاطلة والمعطلة. وقيل أكثر عن النقص فى الموارد، فالبلد فقير واستلمناه، كما تقول الجماعة الحاكمة، مدينا بل معدما. أيكون السبب تدنى مستوى المسئولين والعاملين فى المؤسسات المالية وهى التى لا تحتكم على قوت يوم للشعب إلا بالاستدانة. أم يكون استهتار وفساد جماعات تواترت على حكم مصر وانشغلت بأمور أعضائها ومصالحهم. أيكمن السبب فى تاريخ مصر وطبيعة جغرافيتها وحاجة نيلها إلى جهاز مرتب ينظم مساره ويوزع مياهه ويستفيد من ثرواته. لا سبب أوحدا، ولكن الجميع يتحدثون عن دولة عميقة.

هؤلاء قالوا منذ اليوم الأول، ومازالوا يرددون القول، بأن «الدولة» فى مصر فقدت هيبتها، أو كادت تفقدها، مثلما حدث أو كاد يحدث فى الصومال التى فقدت دولتها هيبتها فاستحقت وصمة الدولة الفاشلة. كذلك فقدت الدولة فى ليبيا هيبتها وها هم يتسابقون على من يشرف بإعلانها دولة فاشلة. وفى تفسير حال الصومال وليبيا وحالات أخرى، يقال وبإصرار إنها النخبة السياسية الهالكة والمؤسسات المهترئة والبيروقراطية المتخلفة والفساد المستشرى، كلها مجتمعة أسقطت هيبة الدولة. بمعنى آخر هى مجموعة «مكونات الدولة» سواء كانت هذه الدولة عميقة أم كانت مسطحة. فات على فقهاء نظرية الدولة العميقة حقيقة أن الصين كانت فى القرن الثامن عشر «دولة عميقة» بالمعنى الذى يقصده أصحاب هذا المفهوم. هذه الصين نفسها، فى نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الحادى والعشرين كانت كذلك دولة عميقة. كانت عميقة عندما فقدت هيبتها وكانت عميقة وهى تنهض وتحتل مكانة الدولة العظمى.

روسيا دولة عميقة حسب مضمون المفهوم الذى اعتنقناه. كانت عميقة قبل ثورة البلاشفة وهى الآن عميقة تحت حكم جماعة فلاديمير بوتين. كانت مثل الصين عميقة ومتخلفة ثم عميقة وناهضة. وبالتالى لا أشعر بحرج كبير أو بنقص شديد وأنا أعترف أننى لم أقتنع يوما اقتناعا كافيا بالقدرة الهائلة للدولة العميقة، القدرة على تعطيل الثورات وإحباط جهود الإصلاح وإفساد النوايا الطيبة للحكام وإهدار طاقات الشعب وتحجر الطقوس والممارسات الدينية.

الدولة العميقة، إن صح وجود دولة عميقة، لا يمكن أن تكون نموذجا لتقدم سريع أو لثورة ناجحة، وتكون فى الوقت نفسه نموذجا لتخلف مزمن وثورات محبطة. أظن أن بعض أصدقائنا من علماء اجتماع السياسة ارتاحوا إلى مفهوم الدولة العميقة، وكذلك فعل حكام مصر فى عهود متلاحقة، لأنه يوفر عليهم مشاق البحث عن أسباب أخرى قد يؤدى انكشافها إلى حرج شديد للمجتمع الأكاديمى المصرى فى ظروفه المتدهورة منذ سنوات، وحرج أشد، وأخطر، لتحالف الحكم الذى هيمن على مقاليد مصر على امتداد سنوات بل عقود. كلاهما يمارس منذ مدة «الإنكار»، إنكار أنه مقصر بدرجة أو بأخرى عن أداء واجب نشر الوعى بحقيقة حال «المجتمع المصرى»، وكيف أن هذا «المجتمع» تدرج انحدارا خلال العقود الأخيرة حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن تحت سمع وبصر ائتلاف القوى الحاكمة وقادة العلوم الاجتماعية فى مصر ومنظرى عقيدة الدولة العميقة.
***
أعتقد أن مشكلة «الدولة» فى مصر لا تقع ضمن حيز المؤسسات والأجهزة والنخب والمنظومات الهالكة أو المتدهورة. أذهب بعيدا فأزعم أن قادة مصر الراهنة يدركون جيدا حقيقة أن المشكلة لا تكمن فقط فى «الدولة» التى فقدت هيبتها أو كادت تفقدها، ولكن فى المجتمع. بل أكاد أتخيلهم يستخدمون مفهوم «المجتمع العميق» بدلا من مفهوم «الدولة العميقة»، كحالة مصرية أصيلة وإن ليست فريدة. هذا المجتمع العميق قد يكون أقوى تأثيرا وفاعلية من الدولة العميقة كمصدر لكثير من أمراض هذه الدولة، وسبب فشل حكامها وبطء نموها. من هنا جاءت خشيتى من عواقب تعبير يستخدمه كثيرا رئيس الدولة عندما يتحدث إلى الشعب أو عن الشعب. يصر الرئيس على تسميته «بالمصريين»، ويخاطبهم كمصريين ويتمنى لهم الخير كمصريين ويسعى لإرضائهم كمصريين ويحذرهم ويدللهم ويعنفهم كمصريين. خشيت أن يكون هذا التعبير يشير ضمنا إلى وجود مسافة تفصل فعليا أو رمزيا بين الجماعة الحاكمة والمجتمع، ويحمل بين جنباته شبهة تميز تحالف الحكم وافتراقه عن المجتمع القاصر والمقصر. الرئيس، فى ظنى، كان يتعامل مع المجتمع باعتباره كيانا بسيطا ومسطحا، وذلك قبل أن يكتشف أنه ليس كذلك.
***
لقد صدرت عن رئيس الدولة أكثر من مرة إشارات واضحة تلمح إلى أن النموذج الذى يتمنى أن يرقى إلى مستواه «المصريون»، هو نموذج «العسكرية المصرية». أتصور أن «المصريين» فى تخيلات كثير من ضباط الجيش، تشبه إلى حد كبير صورة «المجندين» القادمين للتو من أعماق المجتمع المصرى. أظن أيضا، أو هكذا أسمع، أنهم وبكل الصدق والأمانة والوطنية يعتقدون أن قوة الجيش تتوقف على تغيير مواصفات هذا المجند وإلباسه مواصفات جديدة تليق بسمعة المؤسسة التى انضم إليها ودورها، وهى مواصفات تختلف إلى حد كبير، وأحيانا جذرى، عن مواصفات «المجتمع» المدنى العميق الذى قدم منه. خطأ كبير أن تستمر بعض اجهزة الدولة العميقة فى التعامل مع المجتمع على أساس صورة نمطية للانسان المصرى. لم يعد المجتمع المصرى بسيطا أو مسطحا كما تخيلته الدولة العميقة على مر القرون، وكما يتخيله سياسيون وأكاديميون مصريون وعرب عديدون.
***
نعم المجتمع عميق، ولعله أعمق من الدولة، ومسئوليته عن الحال الراهنة لا تقل بحال من الأحوال عن مسئولية «الدولة العميقة». أسمع من مسئولين ومن أصدقاء حريصين على نجاح ما يسمى «التجربة الراهنة»، شكاوى عديدة من هذا «المجتمع العميق» وعن الأسباب التى جعلت منه مشكلة. أسمع منهم الاعتراف بأن المنظومة التعليمية هى المذنب الأعظم فى قضية تخلف مصر، ولكنى أسمعهم يضيفون همسا، ألم يكن الأهالى والتلاميذ جزءا أساسيا من هذه المنظومة؟ أسمع من آخرين اعترافا بمسئولية المؤسسة الدينية عن تدهور مكانة العقل والتحضر فى المجتمع المصرى لصالح الخرافة والوهم تحت اسم الفتاوى التى يشترك فى تصعيد الطلب عليها الدولة والسلطة ومتاعب الانسان العادى. هذه الفتاوى لا يتحمل وزرها ومسئوليتها التاريخية والدينية الأزهر ورجال الدين الرسميون وحدهم بل يشاركهم فيها قطاع واسع من المجتمع. هذا القطاع هو الذى يستدرج المخربين والمنحرفين جنسيا من رجال الدين ومن العاملين فى الإعلام والمزايدين سياسيا ودينيا لإغراق المجتمع بفتاوى يتسلى بها أو يبرر بها بعض فساده وفسقه أو يعذب بها نفسه.. أظن أن كثيرين يتفقون معى فى أن هؤلاء المخربين والمنحرفين يشكلون جانبا هاما وعميقا فى المجتمع لا يقل خطورة عن جانب آخر، هام وعميق أيضا، يضم هؤلاء الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة وبأن مصر من دون بلاد الدنيا هدف دائم لكيان كونى أو «فوق الكونى» يسعى لتدميرها. يعتقدون بالوهم والخرافة أن المصريين، من دون شعوب الأرض ومخلوقاته، سوف يختفون من هذا الكوكب لصالح جماعة سرية تنظم شئون الكون وتصنع أقدار الدول وسائر المخلوقات.
لا يختلف هؤلاء الذين يتقبلون بسعادة ولهفة فتاوى الجنس والانحراف عن أولئك المتقبلين بسعادة ولهفة، وربما بقلق حقيقى، نظريات الكون المعادى لمصر. كلهم جزء أساسى من مجتمع عميق. أعمق كثيرا من الدولة المتهمة ظلما أو عدلا بالعمق. من هذا القاع العميق فى المجتمع المصرى يخرج كل يوم مسئولون وبيروقراطيون ومصلحون دينيون واجتماعيون يطلون علينا من شاشات الإعلام ليعلنوا زعمهم أن القدرة الإلهية هى التى أرسلتهم لحماية هذا الشعب العريق من أعدائه المتربصين له تحت الأرض وفى السماوات.
غير خاف بطبيعة الحال، أن الإيمان بخرافات وأساطير دينية ومؤامرات كونية «واستراتيجية»، مريح لأجهزة ومؤسسات فى الدولة عجزت عن الوفاء بالتزاماتها أو فشلت فى تقدير العمق الحقيقى للمجتمع وبالتالى فشلت فى حل مشكلاته . ترسخ فى ظنها أن هذا النوع من الإيمان يعفيها من المحاسبة على نتائج العجز والتقصير، ويحمل مسئوليتها لعفاريت دولية ومحلية تضمر الشر للمصريين.
***
سألت فى مصر السؤال الذى سألته فى لبنان وأنا أدقق فى مسألة تراكم القمامة. أيهما يتحمل الجانب الأكبر من المسئولية، الدولة أم المجتمع؟ لن أستطيع فى الحالتين أن أعفى «المجتمع العميق» فى البلدين من مسئولية نقص النظافة وتراكم القمامة، كما أننى لن أفلح فى إقناع من حولى بأن «الدولة» سواء كانت عميقة أم مسطحة، بريئة من هذا الوزر الكبير. هنا وهناك يوجد فساد فى الدولة وفساد فى المجتمع ومن الصعوبة بمكان فصل هذا الفساد عن ذلك. المؤكد فى الحالة اللبنانية أن الدولة ليست عميقة كالدولة المصرية، بينما يبقى المجتمع اللبنانى كنظيره المصرى عميقا ومعقدا.
***
لم يفاجئنى التصريح الشهير الكاشف عن نية تعديل الدستور. الدستور بشكله الحالى وضعه مؤسسون معتنقون نظرية الدولة العميقة، لذلك أفترض أن يكون صالحا للتعامل معها. لكن أظن، ولعلى مخطئ فى ظنى، أن هناك فى نخبة الحكم من بدأ يعتقد ان المطلوب فى هذه المرحلة دستور يكون صالحا للتعامل مع «المجتمع المعقد» وليس فقط مع الدولة العميقة، الأمر الذى فات على المشرعين حسنى النية الانتباه إليه. لقد ثبت للمسئولين عند الممارسة، كما يبدو لى على الأقل، أن دهاليز وتفاعلات وتعددية المجتمع لم تحظ بما تستحق من اهتمام مشرعى الدستور الراهن.
اكتشف المسئولون، حسب ظنى، أن مواد الدستور لا تغطى جوانب معينة فى مجتمع لم يدرك الكثيرون من قبل درجة عمقه، وتتجاهل التغيرات التى طرأت عليه وعلى سلوكياته بعد الثورة وما زالت تطرأ، وأحيانا بعنف غير معهود أو بوسائل غير تقليدية. بمعنى آخر، الدولة العميقة التى بدت راسخة فى أذهان مشرعى الدستور وازدادت رسوخا بما شرع لها فى الدستور تظهر الآن وبكل الوضوح الممكن عاجزة عن التعامل مع مجتمع ليس فقط سريع التغير، بل وشديد العمق.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي