القدس بين التهويد والصهينة - محمد السماك - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 5:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القدس بين التهويد والصهينة

نشر فى : الأحد 1 نوفمبر 2009 - 9:58 ص | آخر تحديث : الأحد 1 نوفمبر 2009 - 9:58 ص

 
فى يونيو من عام 1967 احتلت إسرائيل مدينة القدس. كان على رأس القوات الإسرائيلية التى اقتحمت المدينة المقدسة الجنرال موشى دايان. وكان يرافقه فى دبابة القيادة القس الإنجيلى الأمريكى بات روبرتسون.

فى ذلك اليوم أعلن روبرتسون وهو يتفرج على عملية تهديم حى المغاربة المجاور للمسجد الأقصى، أن المعجزة الثانية المتعلقة بسيناريو العودة الثانية للمسيح قد تحققت. وأن علينا الآن العمل على تحقيق المعجزة الثالثة، وهى بناء الهيكل اليهودى على أنقاض المسجد الأقصى وفى موقعه. أما المعجزة الأولى فكانت قد تحققت بقيام إسرائيل فى عام 1948.

وفى عام 1980 ترشح القس روبرتسون للانتخابات الرئاسية الأمريكية. وكان يتطلع إلى العمل على تحقيق المعجزة الثالثة. ولكنه تعثر فى الطريق إلى البيت الأبيض. وكان الفوز من نصيب الرئيس رونالد ريجان.

لم يكن ريجان أقل شغفا بسيناريو نهاية الزمن، الذى يبدأ بمعركة أرمجيدون الماحقة، ثم بعودة المسيح المخلص، الذى يحكم العالم مدة ألف عام يسود خلالها السلام والأمن والعدل. ولذلك كان ريجان يقول إنه يتمنى أن يكرمه الله بالضغط على الزر النووى حتى تقع أرمجيدون، ويكون له بالتالى شرف المساهمة بتحقيق أحد أهم شروط هذه العودة المنتظرة.

بعد إعادة المياه إلى مجاريها بين ريجان وبات روبرتسون، فتح الرئيس الأمريكى الأسبق أمام روبرتسون بوابة مجلس الأمن القومى الأمريكى. فصار تقليدا معتمدا أن يدعى روبرتسون ـ ثم أى إنجيلى من مدرسته (جيرى فولويل الذى توفى أخيرا) ـ إلى المشاركة فى اجتماعات المجلس عندما يدعى لبحث أى قضية تتعلق بالشرق الأوسط، وذلك حتى يأتى القرار متوافقا مع النبوءات التوراتية، خصوصا تلك الواردة فى سفر الرؤيا حول عودة المسيح ونهاية الزمن.

ويعترف فولويل بأن حرب 1967كانت بداية التحوّل فى عمله الدينى ـ السياسى. فقد اعتبر الانتصار الإسرائيلى السريع والحاسم على العرب تجسيدا للإرادة الإلهية. وأنه ما كان ليكون لا بقوة ذاتية ولا بدعم أمريكى، ولكن بتدخل إلهى. ومنذ ذلك الوقت تفرّغ للعمل فى الولايات المتحدة لمصلحة إسرائيل فى الكونجرس وفى البيت الأبيض خصوصا فى الحزب الجمهورى الأمريكى.

فى الواحد والعشرين من شهر أغسطس عام 1969، أى بعد مرور عامين فقط على احتلال القدس، امتدت يد الإجرام الصهيونية إلى المسجد الأقصى وأشعلت فيه النار. وقد أتى الحريق على 1500 متر مربع من أصل 4400 متر مربع هى مساحة المسجد الإجمالية، ودمّر الحريق كذلك منبر صلاح الدين الأيوبى ومسجد عمر ومحراب زكريا، ومقام الأربعين،

وثلاثة أروقة من الأعمدة والأقواس والسقف وأجزاء من القبة الخشبية الداخلية و48 شباكا مصنوعا من الجص والزجاج الملون والسجاد وسورة الإسراء المصنوعة من الفسيفساء. كان الهدف من وراء تلك العملية تدمير الأقصى.. لم تكن تلك هى المحاولة الأولى ولن تكون الأخيرة.

فقد جرت عدة محاولات قبل ذلك، منها محاولة تزنير المسجد بالمتفجرات ونسفه. ومنها محاولة قصفه بالقنابل المحرقة والمدمرة من الجو. ولم تفشل هذه المحاولات إلا بعد افتضاحها. والذين يقومون بها ليسوا يهودا فقط. فالذى أحرق المسجد الأقصى لم يكن يهوديا. كان صهيونيا مهاجرا من أستراليا من أعضاء حركة الصهيونية المسيحانية التى تعتبر قيام إسرائيل واحتلال القدس وبناء هيكل يهودى على أنقاض المسجد الأقصى شروطا لازمة للعودة الثانية للمسيح.

وتمويل تلك المحاولات لم يكن تمويلا إسرائيليا. بل كان مصدره هذه الحركة المسيحانية الصهيونية. حتى شراء العقارات فى القدس وحولها اعتبر منذ 1967 أولوية مقدسة لدى هذه الحركة.

كذلك لم يكن اختيار شهر أغسطس من ذلك العام مصادفة. ففى التاسع من شهر أغسطس من عام 586 قبل الميلاد سقطت مملكة يهوذا بيد نبوخذ نصر ملك بابل؛ فأحرق جيشه مدينة القدس وهدم الهيكل اليهودى وسبى اليهود إلى بابل، إلى أن أعادهم إليها بعد 70 عاما قورش ملك الفرس.

وفى التاسع من شهر أغسطس أيضا من عام 70 بعد الميلاد، انتقم الرومان من اليهود وأعادوا تدمير الهيكل، وقد دام الحكم الرومانى على فلسطين 700 عام إلى أن حرّرها العرب المسلمون فى عام 637 ميلادية.

لذلك تشكل ذكرى التاسع من أغسطس من كل عام مناسبة دينية حيث يتجمّع اليهود أمام حائط المبكى، الذى يعتقدون أنه الجزء الوحيد المتبقّى من الهيكل بعد تدميره الثانى. وهناك يجددون العهد بإعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.

ففى شهر أغسطس من عام 1897 عُقد فى مدينة بال بسويسرا المؤتمر الصهيونى الأول بدعوة من تيودور هرتزل. كان مؤتمرا لليهود الصهاينة. وفى عام 1985، أى بعد 88 عاما، عُقد فى نفس المدينة السويسرية بازل، وفى الفندق ذاته، وفى القاعة ذاتها من الفندق، وفى الشهر ذاته أيضا، مؤتمر صهيونى من نوع آخر ضم الكنائس الإنجيلية المتصهينة التى تعتبر قيام «صهيون» أمرا تمهيديا لابد منه للعودة الثانية للمسيح.

وجه الدعوة إلى «المؤتمر الصهيونى المسيحانى» الدكتور دوجلاس يونج مدير المعهد الأمريكى لدراسات الأرض المقدسة. وترأسه الدكتور فان ديرهوفين رئيس الكنيسة الإنجيلية الهولندية. وحضر المؤتمر التأسيسى 589 شخصية دينية من الولايات المتحدة وأوروبا، ومن كنائس مماثلة فى دول أفريقية وآسيوية أخرى بلغ عددها 27 دولة.

ومنذ ذلك الوقت يُعقد مؤتمران فى شهر أغسطس من كل عام، الأول للحركة الصهيونية ــ اليهودية استكمالا لمسيرة المؤتمر الأول الذى نظمه هرتزل، والثانى للحركة الصهيونية المسيحية الذى أعدّه دوجلاس يونج.

انبثقت عن مؤتمر 1985 منظمة جديدة تحمل اسم «السفارة المسيحية الدولية من أجل القدس». ومهمتها توظيف النفوذ المعنوى والمادى من أجل تمكين المؤسسة الجديدة من تحقيق النبوءات التوراتية المتعلقة بظروف العودة الثانية للمسيح وأهمها تثبيت أقدام الدولة الصهيونية وتجميع بقية اليهود فيها بعد ضمّ كل الأرض التى وعدهم الله بها (!)، وبناء الهيكل اليهودى على أنقاض المسجد الأقصى حتى يظهر المسيح فيهم للمرة الثانية وفقا لما تقوله النبوءات التوراتية التى يؤمنون بها.

وقد عملت السفارة المسيحية الدولية على تحقيق معظم الأهداف التى أعلنتها فى عام 1985، ومن أبرزها نقل يهود الاتحاد السوفييتى السابق إلى إسرائيل، وإنهاء المقاطعة ضد المصالح الإسرائيلية، والضغط على دول أوروبا الشرقية والوسطى لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، ودعوة العالم إلى الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل. وقد لعبت هذه المنظمة الدور الأبرز فى استصدار القرار الأول عن مجلس الكونجرس الأمريكى (الشيوخ والنواب) فى أبريل 1990، الذى نص على دعوة الإدارة الأمريكية إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم باستصدار القرار الثانى فى عام 1995 بنقل مقر السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.

صحيح أن الكنيسة الكاثوليكية، والكنيسة الأرثوذكسية، وكذلك العديد من الكنائس الإنجيلية الأمريكية تعارض عمليات التهويد العقدى والسياسى وتعتبرها تشويها للمسيحية الحقيقية وتضليلا للمسيحيين المؤمنين، إلا أن الصحيح فى الوقت نفسه أن الدور السياسى الذى تقوم به منظمة السفارة المسيحية الدولية باختطاف المسيحية وسوء استغلال اسمها وشعاراتها، يكاد يصبح الدور الأهم فى التأثير على صياغة القرار الأمريكى من قضايا الشرق الأوسط والصراع العربى ـ الإسرائيلى.

والسؤال الآن: ماذا فعل، بالمقابل، العرب والمسلمون بعد سقوط القدس فى يونيو 1967؟
فى عام 1979، أى بعد عشر سنوات من حريق المسجد الأقصى، شكلت منظمة المؤتمر الإسلامى لجنة خاصة لوضع استراتيجية مشتركة لتحرير القدس. وبعد ثلاثين عاما على تشكيلها، لابد من التساؤل عما حققته هذه اللجنة حتى الآن؟ فالجواب الذى لا يحتاج إلى عناء بحث وتفكير هو: لا شىء.

ولكن بالمقارنة، تأسست فى واشنطن «مؤسسة معبد القدس» برئاسة رايزنهوف نفسه رئيس منظمة السفارة المسيحية الدولية مهمتها جمع التبرعات والمساهمات المالية لتدمير الأقصى وبناء الهيكل. وأنشأت هذه المؤسسة فى مدينة القدس القديمة معهدا خاصا باسم «ياشيف اتيريت كوهانيم» أى معهد تاج الحاخاميين لإعداد الكهنة الذين سيخدمون فى الهيكل الثالث بعد بنائه بما فى ذلك مناسك التضحية بالحيوان.

كما موّلت عملية تجرى منذ سنوات لاختيار حجارة البناء وصقلها وتجميعها فى موقع خاص إلى أن تحين ساعة الصفر. وساعة الصفر، هى تدمير المسجد الأقصى.

وفى كتابه «The Last Great Planet Earth» يقول القس هول ليندسى مؤلف الكتاب، وهو من كبار منظرى الحركة الصهيونية المسيحية: «لم يبق سوى حدث واحد ليكتمل المسرح تماما أمام دور إسرائيل فى المشهد العظيم الأخير من مأساتها التاريخية. وهو إعادة بناء الهيكل القديم فى موقعه القديم. ولا يوجد سوى مكان واحد يمكن بناء الهيكل عليه استنادا إلى قانون موسى فى جبل موريا حيث شيد الهيكلان السابقان».

لقد وضع المهندس اليهودى «ايفى يوناه» تصميم الهيكل الثالث على أساس إقامته فى موقع المسجد. وأقرّت التصميم الحاخامية فى إسرائيل والدياسبورا. كما أقرّته المنظمات اليهودية المختلفة. يبقى تهديم وإزالة المسجد الأقصى.

فالقرار بالتهديم اتُخذ منذ عقود، أما التنفيذ فإنه يتم تدريجيا وعلى مراحل بمعولين: معول التطرف الدينى الصهيونى اليهودى والإنجيلى الأمريكى معا، ومعول الخنوع العربى والإسلامى. ولاشك فى أن المعول الثانى أشد خطرا على المسجد وأكثر فاعلية فى مخطط تدميره.

من هنا فان إنقاذ المسجد الأقصى، وبالتالى إنقاذ القدس، وفلسطين عامة يتطلب وعيا عربيا إسلاميا حقيقيا، وتعاونا إسلاميا ــ مسيحيا عالميا حقيقيا أيضا حتى تتحرر القدس من دنس الاحتلال وحتى تستعيد دورها عاصمة للسلام والإخاء بين المؤمنين جميعا.

يُعرف عن ديفيد بن جوريون أول رئيس حكومة لإسرائيل شعاره «لا إسرائيل بدون القدس، ولا قدس بدون الهيكل». أما الردّ العربى الإسلامى فيجب أن يكون: «لا أقصى بدون القدس، ولا قدس بدون فلسطين».

محمد السماك كاتب وصحفي لبناني
التعليقات