اقتربت نهاية عام 2011، العام الأشد صخبا فيما أذكر من أعوام. هو العام الذى ستبقى ذكراه وآثاره تثير جدلا لمدة طويلة من الزمن. لن يذكره الناس كعام حروب واقتتال، وأن لم يخل من عنف وقتل. ولن نذكره عام مجاعات وثورات، وان وقعت فى خلاله أكثر من مجاعة وأكثر من كارثة. اتصور أن أجيالا عديدة ستذكره باعتباره العام الذى كرس نفسه للشباب أو لعله العام الذى اختطفه الشباب وانتزعوه انتزاعا من سلسلة عقود احتكرتها أجيال أصرت على عدم التغيير، تغيير ما آلت هى إليه أو تغيير ما آلت إليه أوطانهم. خرجوا فيه يعبرون عن رفضهم وينفثون عن غضبهم ويستعيدون الثقة بأنفسهم وينحتون محتوى جديدا لمفاهيم الإصلاح والدولة والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية ويكشفون حقيقة الطبقة السياسية والطبقات الحاكمة.
●●●
قبل ان أتحدث عن شباب العرب، أتحدث عن شبان نزلوا إلى مواقع المال والمصارف فى مدن أمريكية ليحتلوها. قضوا سنوات عاطلين عن العمل ولكن على أمل ان تخلق المؤسسات الديمقراطية لهم وظائف. تفاقمت الأزمة فى عام 2008 وساد الاعتقاد أن حكومة الرئيس أوباما، وقد جاءت على بساط تفوح منه رائحة وعود عدالة اجتماعية وتحمله نسائم وعود إصلاح اقتصادى يعيد إلى الرأسمالية وجهها الآخر، سوف تعلن الحرب على بؤر الفساد المالى فى النظام الاقتصادى الأمريكى. أحبط أوباما آمال الشباب الأمريكى، وانتقل الإحباط مضاعفا إلى الناحية الأخرى من الأطلسى. هناك فى أوروبا سقطت حتى الآن وفى مدة وجيزة لا تتجاوز شهرين ثلاث حكومات فى أثينا وروما ومدريد. لم يسقطها الشباب وإنما، ويا لسخرية الأقدار، أسقطتها القوى المحافظة الأوروبية ويمثلها إنجيلا ميركيل ونيكولاس ساركوزى وقيادات المؤسسات المالية العالمية. بكلمات أخرى، خسر الشباب الأمريكى الأوروبى معركتهم مع قوى المال والقوى اليمينية وتعرضت ثورتهم لانتكاسة. ومع ذلك يؤكد محللون متفائلون أنها مؤقتة بدليل زخم المصادمات الاجتماعية ومظاهرات واعتصامات الطلبة فى عدد كبير من جامعات إنجلترا وأمريكا وإسبانيا وفرنسا. يعتقد هؤلاء أن الشباب فى الغرب استعاد حماسته للتغيير، وهى الحماسة التى تفجرت فى عام 1968، ولم تبرد إلا تحت ضغوط تيار العولمة الدافق وسقوط الشيوعية المفاجئ.
●●●
كان 2011 العام الذى اكتشفنا فيه شبابنا العربى. أقول اكتشفنا لأن كثيرين من قادة الرأى غلبهم الظن بأن أمتنا فقدت على طريق الهزائم والتخلف والقهر والجشع جيلا كاملا من شبابها. كان الظن أنه جيل فاقد الوعى والوطنية والطموح ولا يرجى منه خير. أعرف كثيرين، وغالبيتهم من أجيال احتكرت السلطة والمناصب ولا تريد القبول بحقيقة أنه آن أوان إخلاء الساحة لآخرين، يعتقدون أن جيل الشباب تسبب بثورته فى خسائر هائلة ولن يقدر على تعويض ما فقده الوطن. ما لا يريد أن يعترف به هؤلاء هو اننا فى مصر تحديدا تجاوزت ايجابيات الثورة سلبياتها، بخاصة إذا نظرنا إليها فى إطار عملية تاريخية لإعادة بناء دولة تهالكت بنيتها الأساسية وانحدرت منظومتها الأخلاقية والثقافية وترهلت طبقتها السياسية وتحجرت أو كادت تتحجر الغالبية العظمى من مؤسساتها القومية.
أتمنى أن يتذكر المتشائمون من أبناء وبنات الجيل القديم وأن يعرف المتذمرون من أبناء وبنات أجيال أخرى حقيقة كدنا ننساها. جاء زمن كانت المظاهرات الطلابية ضد الاحتلال الإنجليزى وضد الحكومات المتعاونة مع هذا الاحتلال، المكان الطبيعى والفرصة المثالية لتدريب شبان الوطن على العمل السياسى والقيادى، ومن هذه المظاهرات خرج زعماء قادوا حركة الاستقلال واشتغلوا بالعمل السياسى. كثيرون منهم اصطدموا بحكومات ما بعد 1952، وبعضهم يجب أن يذكر له الفضل فى محاولة توجيه البلاد على طريق التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية وتحرير البلاد العربية من الاستعمار الأجنبى وترسيخ قيادة مصر الإقليمية. وأكاد أجزم بأن حرمان الشباب المصرى خلال معظم أعوام الستينيات والسبعينيات من التعبير عن الرأى بالتظاهر أفقدهم التدريب اللازم على القيادة، باستثناء عدد محدود اشترك فى مظاهرات 1968 و1977، وهؤلاء كانت لهم أدوار بارزة، وإن كانت تحت القمع والقهر، فى المعارضة خلال عهد مبارك.
●●●
تحت ضغط أحداث ميدان التحرير وميادين عديدة فى مدن مصر، يسعدنى أن أخرج عن التيار وأعترف بتهمة التفاؤل. فقد تأكدت من خلال متابعة دقيقة من أنه فى هذه الميادين، وفى المنتديات والجمعيات والمدارس والجامعات، تدرب خلال الشهور التسعة الماضية، ويتدرب الآن المئات بل الألوف من الشباب على العمل السياسى. من هنا أقرر، وبكل ثقة، أن مصر لديها الآن «مشروع» طبقة سياسية جديدة مؤهلة أفضل تأهيل لقيادة الدولة، شعبا وحكومة وأحزابا ونقابات، لعقود عديدة قادمة. هنا، حيث المظاهرات والاعتصامات التى يستنكرها البعض ويحملها مسئولية المشكلات الاقتصادية والفوضى والانفلات الأمنى، وقع غرس بذور مستقبل سيكون أفضل بكل المقاييس من سنوات مبارك وأفضل من حالتنا الراهنة، حيث لا توجد بالوفرة المناسبة قيادات سياسية قادرة على القيادة واتخاذ القرارات والاستعداد لفهم حقيقة هذه الثورة وثوارها.
قارن بين هؤلاء الشبان عندما تتاح لهم الفرصة ليتولوا مقاليد السياسة بعد سنوات، وبين الطبقة السياسية التى تولت قيادة الأحزاب السياسية كافة والنقابات والمجالس والوظائف العليا فى الإعلام والتعليم والثقافة على امتداد حكم مبارك والشهور التسعة الماضية. طبقة تحت النشأة تتدرب الآن فى الشوارع على التعامل مع قضايا ومشكلات حيوية وحقيقية وتشهد يوميا على تجاوزات سلطة وتواجهها وتنتقد تصرفاتها وتميز بين الصواب والخطأ. على الناحية الأخرى تقف طبقة أخرى لم تتعامل مع مشكلات على هذا القدر من الحساسية والخطورة وهى فى سن الشباب، ولا فى أى سن أخرى. أكثر أفرادها اعتادوا فكرة أن الحل الأمنى كفيل بتغطية عيوبهم وأوجه قصورهم. نشأوا على اعتقاد خاطئ وضار وهو أن العسكريين فوق المدنيين أو على مسافة يجب أن يحترمها العاملون بالسياسة. لقنوهم أنهم دائما وأبدا سيجدون قوى البطش جاهزة للضرب بكل قسوة على أيدى المحرومين والمظلومين إن خرجوا يعربون عن غضبهم. هذه الطبقة السياسية لم يبذل أفرادها جهدا أو تضحية فقد أعفاهم تقربهم من مسئولين أعلى شأنا من بذل الجهد والتضحية. قارن بين ما بذل فى إعداد وتدريب طبقة هذه أوصافها وما يتلقاه شباب هذه الأيام من تدريبات شاقة وصادقة على طريق بناء طبقة سياسية جديدة، مكان وزمان عملها يقعان فى مستقبل مصر.
●●●
أما المصدر الأهم لحالة التفاؤل التى أعيش فيها، فيتعلق بأشد الأمور حساسية، أو هكذا يوحى به للناس. أتحدث هنا عن دور المؤسسة العسكرية ومكانها فى دولة المستقبل. أقول وبكل صراحة ممكنة إننى فخور وسعيد بتأكيدات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من خلال تصرفاته وممارساته خلال الشهور الماضية، عن أن القوات المسلحة المصرية مؤسسة مهنية غير مسيسة وغير مؤهلة للعمل السياسى، وربما غير مستعدة وغير راغبة فى أن يكون لها دور سياسى «مباشر» فى المستقبل.
رب ضارة نافعة، لأنه لو كانت الشهور الماضية مرت بهدوء وتحقق الاستقرار وعادت مؤسسات الدولة تعمل وانعقدت تحالفات سياسية وانضم المجلس العسكرى أو أفراد فيه إلى تنظيمات سياسية أو قام بإنشائها، لكنت الآن مشفقا على القوات المسلحة من غوايات السياسة وإغراء العودة لممارستها، ولكنت الآن أشفق على مصر من فصل جديد من فصول «الحكم العسكرى» وسلسلة لا تتوقف من الانقلابات العسكرية تضع مصر فى مستوى دولة العسكر فى ميانمار (بورما سابقا) وفى فنزويلا أو فى مستوى جمهوريات الموز العسكرية فى أمريكا الوسطى.
أتفهم قلق بعض المسئولين العسكريين على مستقبل مؤسستهم فى ظل نظام سياسى غير معروف الملامح والقدرة على الاستمرار وتحقيق الاستقرار. وأفهم حاجة الحريصين على سلامة هذه المؤسسة إلى ضمانات حماية، ولو ضمانات متناقصة خلال فترة تمتد من خمس إلى عشر سنوات. واعتقد أنه من واجب جميع المشتركين فى عملية بناء الدولة المصرية الحديثة وضع هذا البند بين أولويات اهتمامهم. فالدولة الحديثة لن تقوم إلا بين مؤسساتها، وبالتأكيد ليس فوقها، مؤسسة عسكرية قوية وعلى قدر عال من الالتزام والمهنية.
هذه الدولة ملتزمة بحماية المؤسسة العسكرية ضد تدخلات القوى السياسية وأعاصير السياسة الداخلية، وفى الوقت نفسه تلتزم المؤسسة العسكرية بحماية الدولة وعدم التدخل فى السياسة وألا تعود يوما إلى حجة واهية وغير ديمقراطية وهى حاجتها إلى حماية نفسها بنفسها. إن أحد أبرز أسباب بطء عملية الانتقال فى بلادنا هو أن القائم على عملية الانتقال إلى الديمقراطية جهاز عسكرى، بينما المعروف بل المؤكد هو أن الديمقراطية لا تمارس داخل الثكنات والقواعد العسكرية. لن ينسى شبان مصر التصريح الشهير عن الديمقراطية الذى أدلى به عمر سليمان إلى مذيعة أمريكية متحديا إرادة الملايين الذين خرجوا مطالبين بالكرامة والحرية، أى بالديمقراطية.
أعرف قدر التشاؤم المختزن عند الكثيرين. طلبت من صديق حكيم تقييمه لعام 2011، فقال «إن أهم ما يتميز به عام 2011 هو أنه أفضل كثيرا من عام 2012». أخشى أن تثبت الأيام المقبلة صدق هذا التقويم المفرط فى التشاؤم وبخاصة إذا استمرت الأسباب التى دفعت إليه، وفى مقدمتها عدم وجود إدارة مدنية كفوءة وواعية. ومع ذلك أبقى على تفاؤلى وأصر عليه وبخاصة وأنا أرى كل يوم شيئا يتغير بفعل الثورة نحو الأحسن فى مجتمع لم يكن حتى وقت قريب معافى أو عادلا أو على خلق حسن.