ليلة امبارح ما جاليش نوم - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:48 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليلة امبارح ما جاليش نوم

نشر فى : الثلاثاء 1 ديسمبر 2015 - 10:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 1 ديسمبر 2015 - 10:35 م
كنت على متن قارب بخارى فى رحلة صيد فى البحر الأحمر أساعد «القبطان» فى طهو الأرز المرصع بثمار البحر عندما وصلت إلى سمعى أغنية «ليلة امبارح ما جاليش نوم»، يؤديها بعض رفاق الرحلة من فوق سطح القارب. توقفت عن تنظيف الثمار مثيرا فضول القبطان ــ الطباخ. سألنى فأجبت أننى توقفت لسببين. تذكرت أننى بالفعل لم أحصل على قسط معتاد من النوم الليلة الفائتة، ليس لأننى أحد الذين يعانون من نوبات أرق، ولكن لانشغالى بمهام صرفت عن عيونى النوم. أما السبب الثانى فكان أننى تذكرت صاحب الأغنية.
****
تذكرت العزيز السيد مكاوى. كنت طفلا اتسلل فى وسط الليل لأسمعه بين أصدقائه يعزف على العود الذى لم يكن يفارقه. كبرت لأعلم أن هذا الرجل لم يكن ينام الليل. الليل عنده فسحة للطرب والمتعة. الليل خلق للسهر وليس للنوم. سمعت من بين أهلى من نقلوا عنه هذه «الحكمة» وعشت أرددها نقلا عنه، حتى وان عجزت عن تنفيذها.
***
بقدرة قادر هيمن حديث النوم على الرحلة البحرية. قالت سيدة، كانت رائعة فى خلقها وعلمها وجمالها، هل يفاجئكم قولى اننى فى حياتى ما توجهت بدعاء إلا لتمنحنى السماء نعمة النوم العميق، وأن السماء لم تستجب لدعائى فى أى ليلة. سكتت قليلا ثم قالت، هل تعلمون أيها السادة والسيدات أننى فى حياتى لم أحسد أحدا إلا زوجى، وأنا أراه واسمعه يغط فى النوم طول الليل بينما عيناى والدموع فيهما تستجديان ساعة نوم.
* * *
لم أكن أعرف قبل تلك الرحلة البحرية أن دراسات أجريت على عائلات تتفاوت عادات النوم عند أعضائها. اكتشف الباحثون ان أغلب العائلات التى تختلف فيها مواعيد استيقاظ أفرادها عائلات غير سعيدة. استطيع من تجارب شخصية تقدير هذا الأمر. يريد رب العائلة، فى غالب الأحوال، أن ينهض الجميع مبكرا ليبدأوا جولات الاستكشاف والسياحة والتسلية والاستمتاع، بينما يفضل بعض أفرادها الاستفادة من الإجازة بالنوم. ينتهى النقاش أحيانا بالشجار وربما فسدت متعة اليوم، أو الرحلة بأكملها.
نعرف الآن أن طبيعة الأجسام فى العائلة الواحدة تختلف. هناك خلايا فى جسم تحب مواعيد وألوان الشروق وتفضل النهار، وقد تكون هى الأكثر عددا فى الجسم، وهناك خلايا تحب مواعيد وألوان الغروب وتفضل الليل، وقد تكون هى الأكثر عددا فى أجسام أخرى. نفهم الآن معنى أن فلانا «ليلى» بطبيعته، أى يعيش الليل ساهرا بعيدا عن فراشه، وفلانا يقدس عتمة الليل وسكونه ومتعة فراشه.
* * *
جال بخاطرى ذات يوم ان أنبه أصحاب القرار السياسى إلى أن حملة التبكير بالعمل فى الصباح لن تنجح فى مصر. إذا أنت أردت أن يستيقظ الناس مبكرا عليك أولا، أن تفرض عليهم، مثلما يفعل القادة فى معسكر للجيش، ان يطفئوا أنوار عنابر النوم فى ساعة مبكرة وأن من يضبط ساهرا يعاقب. ليس كل ما ينجز بكفاءة وسرعة فى الجيش يمكن انجازه فى المدينة أو القرية، فالبيئة مختلفة والناس ليسوا نفس الناس. ينسى أصحاب القرار أحيانا أن الاعتراض والاحتجاج والتمرد من سمات أهل المدينة، المدينة بمعناها الحضرى وبمعنى المعاصرة وبمعناها الوظيفى والسياسى. كنا فى طفولتنا وبداية المراهقة نستيقظ فى معسكرات الكشافة والجوالة مع الفجر، نرتب الخيام ونعد الطعام ونمشى فى طوابير الصباح، ولكن ما أن نعود إلى بيوتنا وعائلاتنا فى المدينة حتى نعود إلى عاداتنا الوثيرة والكسولة والناعمة، والمتمردة. مرت سنوات قبل أن أتيقن من صدق نصيحة سمعتها من استاذ علمنى تاريخ الحضارة، كان يقول لتلاميذه «تمردوا تبدعوا».
* * *
لم يغب عن النقاش الدائر فوق سطح القارب حقيقة أن الحرمان من النوم عذاب أليم يتفوق على أى آلية تعذيب أخرى. كتب Kelly Buckeley مدير «قاعدة معلومات النوم والأحلام» فى دورية «علم النفس.. اليوم»، اشهر وأقدم مجلات علم النفس، يقول إن الحرمان الطويل من النوم أشد أنواع التعذيب وحشية، لأنه يهاجم الوظائف البيولوجية التى تقوم عليها صحة الإنسان العقلية والجسمانية. يقول كيلى إنه ينتج عن الحرمان من النوم تشتت الذهن وهيمنة «الرؤى الضبابية» للناس والأشياء والإدراك المشوه للبيئة المحيطة بالإنسان المحروم من النوم، وتنتهى فى الغالب بما يعرف بإنسان غير مبال ومنسحبا من المجتمع، وبأعراض عديدة منها Lethargy Withdrawal وهو أقرب شىء ممكن إلى «تكاسل أعضاء الجسم والذهن» وربما ضمورها.
***
هناك أيضا قناعة عامة بين علماء النفس والمربين بأن النوم الصحى هو نوم الليل، وليس أى نوم. بمعنى آخر نتصور خطأ أننا يمكننا تعويض ما نفقده من ساعات نوم بالليل بالنوم نفس عدد الساعات بالنهار. الدليل على ذلك يعرفه كل من عانى مشكلة الاضطراب بسبب فرق الوقت فى المناطق الزمنية خلال السفر لمسافات بعيدة. دليلنا الآخر هو هذا الرضيع الذى بمجرد أن يتعرف على الفرق بين النهار والليل يختار من تلقاء نفسه ان يكون معظم نومه خلال الليل.
* * *
لم تغب عن شركاء الرحلة مناقشة أمرين آخرين يتصلان اتصالا وثيقا بمسألة النوم والحرمان منه. أذكر من دراساتى المبكرة فى الدبلوماسية قاعدة انهاك الخصم فى المفاوضات بالإصرار على ان تكون المفاوضات ليلية بقصد حرمانه من النوم. وبالفعل ما زال هذا التكتيك يدرس فى الجامعات إذ يقول Chee Michaelمدير مركز علوم الأعصاب فى جامعة سنغافورة، ان قدرة المفاوض المحروم من النوم تضعف عن استيعاب معلومة جديدة، وتنخفض حدود ذاكرته قصيرة الأجل، ويندفع فى اتجاه اتخاذ قرار متعجل.
الأمر الثانى الذى حظى بتركيز فى النقاش هو سجل الكوارث الهائلة التى وقعت بسبب نقص فى ساعات نوم العاملين. أشار أحد رفاق الرحلة إلى الكوارث الأهم وأغلبها فى محطات الطاقة النووية، مثل كارثة مفاعلات جزيرة الأميال الثلاثة فى الولايات المتحدة وكارثة تشيرنوبيل فى أوكرانيا وكارثة فوكوشيما فى اليابان وكارثة معمل الكيماويات الأمريكى فى مدينة بوبال الهندية. لذلك وضع الاتحاد الأوروبى قواعد صارمة تفرض على العمال وأصحاب العمل التمتع بفترات راحة معقولة، وأن ينص فى أى عقد عمل على النص على مفهوم الراحة، كحق وواجب.
* * *
رحم الله سيد مكاوى، أمتعنا فى زمنه بروعة فنه ويذكرنا فى غيابه بعبقرية التمرد.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي